احدث الاخبار

حكايتي .. مع جدتي

حكايتي .. مع جدتي
اخبار السعيدة - بقلم - عبد الحبيب العزي*         التاريخ : 29-12-2010

في قريتي الصغيرة - التي لا زلت أعشق هوائها النقي إلى اليوم – عشتُ سنوات طفولتي الأولى ، في كنف عائلتي الكبيرة والمتماسكة ، والتي كانت متأثرة – كغيرها من الأسر اليمنية – ببعض من موروثات العُرف السائد آنذاك ، والمتعلق بنظرة الرجل الدونية إلى المرأة في كل شيء ، والتعامل معها وكأنها مجرد تابع للرجل ، يوجهها ويقودها كيفما شاء ، وكذا قناعتها هي  ورضاها - راغبة أو مكرهة -  بذاك الواقع المرير .

جدتي " مِسْك " ذات الـ 85 ربيعاً – حفظها الله وأطال في عمرها ، فهي لازالت تعيش إلى اليوم - حدثتني ولا زالت بأحاديث كثيرة ومثيرة ، عن صباها وعن شبابها ، عن المرأة الريفية وكفاحها ، عن الحقل والزراعة ، عن السنوات التي كانت تُعرف بسنوات الجوع ، عن الإمام وعساكر الإمام ، وغصت معها في أعماق ذاكرتها المثقلة ، محاولاً استخلاص بعض أوجاع المرأة الريفية من خلالها ، لكن جدتي - وبكل أمانة - كانت عصامية وقوية ، فقد كانت تحدثني عن المعاناة ، بنبرة ملؤها الفخر والتباهي بذاك الماضي التليد بالنسبة لها ، بل على العكس من ذلك هي ترثي لحال هذا الجيل ، الذي تصفه بـ " جيل النيدو " .

 قالت لي وبلهجة ريفية بسيطة : " يا بني " المكلف " مننا كانت " تُبَكِّر" قبل أذان الفجر تطحن الحب " بيدإيه" على المطحن القديم قبل ما يظهروا الطواحين ، لحين أذان الفجر وتسرح تصلي الفجر ، وبعدا تسير " تُبَدِّي " البقر ، وتحلب الحليب ، وتدبِش الحقين ، وترجع تسير " تُطْعِم " من الحول عند الغبش وساعة البكور إلى أن تطلع الشمس ، وتعود محملة بـ " العِصَاب الطُّعْم " تطرحه من رأسها وتسير ساني " المنداد " من شان تعمل الصبوح ، وبعد ما يجهز الصبوح تنادي الجميع وتصحي الرقود يجتمعوا للصبوح " .

 وطبعاً " أكي ي ي د "  أول الرقود هو " مقصوف العمر " عبده عفط " الإقطاعي " رقم واحد بالقرية " الله يشله وينتقمه " يا جدتي ، مو عاد " شنقول " اذي الساع .

وكنتُ قد سمعتها يوماً تقول ما معناه أن " الحليب والسمن " هي للرجل بشكل أساس ، وأن من العيب عرفاً أن تطلب المرأة أو البنت هذه الأشياء أو تتناولها مثل الرجل " ، وإن فعلت ففي الخفاء وعلى استحياء .

فيا تُرى من أين أتت جدتي بتلك القناعة ، بأن تلك الأشياء هي حكراً على الرجل دون المرأة ، حتى باتت عُرفاً سائداً تؤمن به ، بل وترى أن ما سواه هو العيب ؟! وهل كانت قناعتها تلك نتاجاً طبيعياً للموروث أو العرف السائد آنذاك ؟! ثم من أي " داهية " هطل ذاك الموروث أصلاً ؟

أي موروث وأي عُرف هذا الذي يجعل من المرأة مجرد " أجير " يعمل في نظام إقطاع ، ليعود بذاكرتنا ثمانية قرون إلى الوراء ، وليذكرنا بأبشع إقطاع عرفه التاريخ في أوروبا طيلة القرون الوسطى ، حين كان الفلاح البسيط مجرد رقيق و" عبد "  في خدمة " السيد " المالك للأرض ، إبان الثورة على رجال الكنيسة وإيذاناً ببدء قيام الثورة الصناعية آنذاك .

أي موروث ذاك الذي يقول أن على المرأة جمع الحطب من أعالي الجبال ، ونقل الماء من منابعه سيراً على أقدامها تحت قيض الشمس عبر المسافات الطوال ، وعليها رعي الأغنام .. وحلب الأبقار .. وحمل الأثقال .. وقطع الأشجار .. وتربية الصغار .. ونقل فضلات المواشي للحقول وضفاف الأنهار .. وعليها ...! وعليها ... ! إلى كل ما هنالك من هذه المشاق ، التي تنوء بحملها حتى الجبال الثقال ، والتي هي في الأصل مهمات الرجال .

نبئوني بربكم ماذا بقي من عمل يمكن أن يقوم به " السيد " المبجل ، وحضرة " الإقطاعي " المحترم  ليعمله ، سوى احتكار شرب اللبن وفتة السمن مع الدخن ، والاستحواذ على كل ما لذ وطاب من منتجات الأبقار والماعز ومشتقاتهما ، ليشبع بهم نهمه ويرضي أنانيته ، على حساب تلك المسكينة وأولادها ، والتي لازال يطلَق عليها في بعض مناطق الريف اليمني إلى اليوم ظلماً وجوراً " خدّامة " ، وحين يكون الجهل سيد الموقف – وهنا أقصد " الجهل " بالمطلق ، في كل شيء ، جهل بالدين وبالتشريع وبمفهوم القوامة ، وجهل بالعلم والمعرفة ، وجهل بالقيم وبالأخلاق ، ثم تخلف وظلام ، وكل ذلك يُفضي إلى تفشي الظلم بداهة ، ولا فرق حينها إذاً بين سيد " الإقطاع " في أوروبا ، وسيد الإقطاع في اليمن ، سوى أن الأول كان في العصور السحيقة قبل ثمانية قرون ، والأخير لا زال يمارسه في القرن العشرين ، بل وحتى الحادي والعشرين .

إن الإشكالية الحقيقية بتقديري تكمن في تخلفنا وجهلنا المريع في فهم مصطلح الموروث أصلاً فضلاً عن فهم فحواه ، فالموروث الحقيقي يجب أن يكون مصدر فخر لنا وليس العكس ، فنحن أمة تملك أرقى وأعظم موروث حضاري وإنساني عرفته البشرية عبر العصور ، وعلينا تكمن مسئولية المواءمة بين ذاك الموروث الحضاري العظيم ، وبين ممارساتنا على أرض الواقع ، والتي يجب أن تكون منسجمة ومتناغمة مع  أخلاقيات وقيم ذلك الموروث العظيم .

بقعة ضوء :

لأن حبي لجدتي - يساوي أو قد يفوق - كرهي لنظام الإقطاع وللظلم ذاته ، ولأنني أعلم أنها كانت تحب جدي " رحمه الله " ، فأنا أطمئنها أنني لم أكن أقصد بالضرورة أن يكون رجل " الإقطاع " هو جدي ، بقدر ما حاولت توصيف حالة - كانت وما تزال - جاثمة إلى اليوم في مناطق مختلفة من الريف اليمني ، ولم أجد سبيلاً لتناولها سوى من خلال ..

" حكايتي مع جدتي "

*كاتب – ومستشار للتحرير بمجلة المرأة والتنمية

الصادرة عن الاتحاد النسائي العربي واتحاد نساء اليمن

عدد القراءات : 3729
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات
رشاد عبد المالك الوجيه
اتحفتنا يا شيخ حبيب وذكرتنا بالماضي وبأجدادنا وجداتنا نسأل الله أن يرحمهم ويغفر لهم فأنت قائدنا للتخلص من هذه الأفكار وأنت بذرة الأمل التي تتعلق بها آمالنا وأنت كاتبنا الأول والوحيد الذي نفتخر به.
طارق
حدوته حلوووووووه وعبرتها أحلى شكراً يا حبحب
خالد القدسي
كلام جدا لذيذ ورائع...
عبدالباسط الحريبي
كلام جميل جدا.واضيف اليه ان "المكلف" في ريفناتظلم حتى في حقها الشرعي من الميراث
Mustafa
الله عليك يا حبيب؛؛؛ والله مبدع. والله يعافي جدتك ويحسن ختامها.