احدث الاخبار

قبو الأحزان !!

قبو الأحزان !!
اخبار السعيدة - بقلم - خالد بريه         التاريخ : 03-12-2013

 كان عمره حينها أربعة أعوام عندما استوقفته سيارة لرجل يملأ قلبه الحقد وتظهر على وجهه آثار الانتقام، تم إدخاله فيها قسراً وعنوة وهو يصرخ من أعماق قلبه علَّ أحداً ينتشله من براثن الخاطف الأثيم . لم يعلم حينها إلى أين تأخذه الأقدار ولم يكن يجيد سوى البكاء على أمه، تساؤلات مثيرة تحوم حوله،من أنت ؟! ماذا تريد مني ؟! أين سأذهب؟ أين تريد أن تأخذني؟ تساؤلات ممزوجة بمرارة الخوف والبكاء. سمع المختطِف يتحدث في هاتفه لأحد أصدقائه أنَّ المهمة تمت بنجاح وهو الآن في طريقه لمدينة صنعاء . سمع عصام مدينة صنعاء فانفجر باكياً وعادت به الذكريات لتلك الليلة الأليمة عندما اعتدى والده على أمه بالضرب المبرح وعصام يشاهد ما يحدث لأمه وسمع والده يلقي كلمة الطلاق لأمه ومن حينها وعصام يعيش في كنف والدته التي عانت من ظلم زوجها وطيشه وانفعالاته. في تلك الليلة قرر والد عصام الذهاب للعيش في صنعاء ليعيش حياة أكثر حرية وروعة في صحبة أصدقائه القادة في أحد الأحزاب القومية الذي أخذ عليه كل تفكيره وعقله . سمع عصام تهديد والده لأمه : سأحرق قلبكِ على عصام . تذكر عصام هذه الذكرى المريرة وعلم - وهو ابن الرابعة من عمره - أن والده وفى بتهديده في حرق قلبِ أمه .

يتذكر جيداً أول مرة دخل فيها مدينة صنعاء في جنح الليل المظلم والجبال تحوطها من كل جانب في منظر مهيب .. يتمتم في نفسه هنا سأعيش بعيداً عن أمي ﻻ ﻻ , فينفجر بالبكاء ويعمُّه الخوف والذهول . في صباح اليوم الأول وجد عصام نفسه في غرفةٍ صغيرة ﻻ تصلح للعيش أشبه ما تكون بسجن انفرادي .. سمع صوت خالته (زوجة أبيه ) تصيح في وجهه هنا مكانك وهذه غرفة عيشك من الآن . كان عصام عصامياً منذ طفولته لم يستسلم لهذا الوضع الجديد بكل سهولة ولم يكن له من وسيلة للرفض إﻻ البكاء والبكاء فقط .

عصام الطفل الوحيد لأبويه الذي كان يعيش حياة رغيدة مفعمة بالطفولة والبراءة والحب في ظل والديه قبل أن تَهُبَّ رياح السموم المحملة بالمشاكل التي كان من نتائجها الفراق والشتات على مر السنين . لم يتصور عصام نفسه وهو في المطبخ يعمل ويقوم بالغسيل والنظافة وحمل القمامة حافِ القدمين رثَّ المﻻبس ووالده القيادي البارز وصاحب الأموال .

لم تكن الأيام كفيلة بنسيان عصام لأمه ولو لحظة واحدة، ظل يبكي ويطالب بحقه في العودة لأمه، لكن عصا القسوة والحقد الذي ملأ قلب والده على أمه تجسد في الضرب الذي أُنزل به , لتمتزج أناته المتعبة بهزيع الليل القارص في صنعاء . في المدرسة . في طابور الصباح وجد عصام نفسه يهتف تحيى الجمهورية اليمنية .. ويسير في صف مستقيم لدخول الفصل الدراسي . هناك حيث تقعد الأم تبكي طفلها المختطف من سنة تقريباً وهي تعاني الحرمان وتشكو قسوة الفقد الذي ألبس حياتها السواد .. جاءها هاتف من صنعاء يخبرها أن عصام يعيش مع أبيه وزوجته وأخبرها بحاله هناك .. ومن ثم أخبرها بدخوله المدرسة الابتدائية في حي حدة بصنعاء .

انفرجتْ أساريرها عندما بزغ نور من رحم صنعاء يخبرها بمكان فلذة كبدها , خبر أعاد الحياة لوجهها الشاحب الممتلئ حزناً على صغيرها . في الفصل الدراسي كان يقضي عصام أغلب وقته هائماً شارد الذهن يتذكر أمه، ثم ما تلبث أن تنحدر من عينيه دموع الشوق والأحزان، وظلَّ على تلك الحال أياماً . الأستاذة أميرة لاحظت ما يعانيه الطفل عصام وشعرت أن شيئاً ما يخفيه هذا الطفل، أخذته جانباً في فترة الراحة وظلت تداعبه وتثني على ذكائه وخطه الجميل مع أنه في المرحلة الأولى من الدراسة، ابتسم عصام ابتسامة خفيفة وشكرها على لطفها وثنائها ، قالت له :عصام مالي أراك حزيناً كئيباً؟ هل تشكوا من شيء؟.

هل أغضبك أحد الأطفال في صفك أو أزعجك أحد المدرسين؟ صمتَ عصام ولم ينبسْ ببنتِ شفه . قالت له حدثني يا عصام فأنا مثل أمك . انفجر بالبكاء عند ذكر أمه فحدثها بكل شيء يعانيه من فقد أمه، لم تتمالك نفسها هي الأخرى فانفجرت باكيةً حال هذا الطفل الذي يشكوا داء البعاد عن أمه . في اجتماع جمع بينهن تحدثت أميرة أمام المديرة وباقي المدرسات بكل تفاصيل قصة عصام وما يعانيه، فتعاطفن معه وقررن أن يبحثن عن هاتف أمه لتحدثه كل يوم في فترة الراحة المدرسية بشكل مرتب وسري ، بعد جهدٍ وعناء واتصال ببعض الشخصيات التي تسكن في مدينة أم عصام تمكنت المديرة من الحصول على رقم هاتفها المنزلي , في الساعة التاسعة والنصف صباحاً جاءت الأستاذة أميرة لفصل عصام واستأذنت له بالخروج . المديرة تريد الحديث معك . معي أنا . نعم . دخل إدارة المدرسة برفقة معلمته ووجد جمعاً من المدرسات بالداخل ينظرن إليه نظرة إشفاق مليئة بالحب والحنان . المديرة: تفضل يا عصام، اجلس بالقرب مني، لدي لك مفاجأة جميلة ستعجبك كثيراً .. ظن عصام أنها ستهديه جائزة تشجيعية لجمال خطه وذكائه ونيله المرتبة الأولى في اختبار الشهري في بعض المواد، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وإنما ناولته سماعة الهاتف وقالت له : تحدث . ألو .. حبيبي عصام كيف حالك معك ماما يا عيون ماما ..اختلط الحديث بالبكاء وهو يصيح في سماعة الهاتف ماما ماما ليُشبع بها شوقه ولهفته لرؤيتها . ضج الجميع بالبكاء لم يبقى أحد في الإدارة إﻻ والدمع ينهمر من عينيه .. وكانت جلسة مشحونةً بالعاطفة والحب والبكاء . تكرر هذا الأمر كثيراً فكان عصام ما بين الفينة والأخرى يحادث أمه في الهاتف يشكوا إليها ظلم زوجة أبيه وقسوتها ويعبر لها بما يستطيع عن حبه وشوقه للقائها . كان عصام بعد كل حديث مع أمه يعود إلى البيت بوجهٍ شاحب حزين وفكرٍ شارد، شعر والده بهذا التغير المفاجئ فقرر زيارة المدرسة . استقبلته بوابلٍ من العتاب القاسي والكلمات المؤلمة ونعتته بقسوةِ القلب وجفاءِ المشاعر، علم من حديثها أن عصام أخبرها , فما كان منه إﻻ أن قام بتحويله لمدرسة أخرى، اشترط عليهم وشدد على عدم السماح له بمحادثة أمه، وهذا ما كان . إلى بغداد في الساعة الثامنة صباحاً كان عصام في مطار صنعاء برفقة والده وزوجة أبيه وإخوته لأبيه متجهين إلى بغداد الرشيد، في الفندق الجميل المطلِّ على إحدى شوارعِ بغداد الرئيسة كان عصام غاضباً يشتهي رؤية أمه والحديث معها . علم والد عصام أنه بدأ يكبر ويدرك جيداً بُعْدَه عن أمه كل هذه السنين العجاف ففكَّر في مكيدةٍ لإبقائه أكبر قدر ممكن تحت سيطرته بعيداً عن أمه ليحرق قلبها كما وعدها وهددها ذات يوم . سنذهب غداً إلى أشهر طبيب نفسي عرفته بغداد لنعرض عليه حالة عصام النفسية المضطربة . في عيادة الطبيب كان البروتوكول المتعارف عليه أن يُعرض المريض على نائب الدكتور لأخذ كافة المعلومات لعرضها على الطبيب الأكبر، أحيل ملف عصام على الطبيب وتم تحديد الموعد بينهما بعد يومين . مضتِ اليومان بسرعة البرق ليجد عصام نفسه في حضرة الطبيب النفسي الأشهر في بغداد، الشيب يغطي رأسه، عليه مسحة وقار, والمهابة تعلو محياه، طلب الطبيب الانفراد بعصام فكان له ذلك .. الطبيب سلامات يا دكتور عصام .. ما لذي تشعر به؟ ما هي الحالة التي تعتريك؟ لماذا يشكوا والدك من كثرة اضطراباتك ومشاكلك؟ هل هناك ثمة أمر يؤرقك ويجعلك في شرود دائم؟ أجاب عصام : ليس لدي اضطرابات وﻻ أعاني من أمراض نفسية، الشيء الوحيد الذي يؤرقني هي حياتي! أعني أمي ، وحكى له الخبر ... ! غضب الطبيب من تصرفات والده الرعناء وقال بصوت مبحوح ﻻ يجوز أن يحرم طفلٌ من أمه كل هذه السنين وأن يُعامل بهذه القسوة اللاإنسانية . ما كنتُ أتوقع أن يصل الحال بالإنسان أن ينحدر لمستوى يتخلى فيه عن إنسانيته وأبوته وقيمه وفطرته ويعيش حياة الغاب مع فلذة كبده .. استدعى الطبيبُ والد عصام وصبَّ عليه كلماتٍ كالحمم يُشتم منها رائحة الغضب والسخط الذي اعترى الطبيب، حاول التنصل منها بتكذيبها وتكذيب عصام وأنه طفل مصاب باضطرابات تفقده السيطرة على أفعاله وتجعله يهرف بما ﻻ يعرف .. كان الطبيبُ فطناً وأدركَ كذبَ والدِ عصام، فقرر إدخال عصام في غرفة التنويم المغناطيسي وهنا كانت المفاجأة . أثناء تنويم عصام تحدث بكلماتٍ أبكت الطبيب وجعلته ينتحبُ كالأطفال . قال له بصوته البريء ونبرته الطفولية الحزينة يا دكتور تخيل لو أن هناك من فرق بينك وبين طفلك الصغير لسنوات كيف سيكون حالك، وما هو شعورك؟ بكى الطبيب من كلماتِ عصام التي أخرجها من أعماق مأساته المكبوتة في قلبه وعقله، وتعلقه بأمه التي اختُطف منها وأُبعد عنها قسراً وظلماً . كتبَ الطبيبُ تشخيصه لحالة عصام بأنه بكاملِ قواه العقلية وأنه طفلٌ فطن ذكي يعاني الحرمان والظلم من قبل أبيه وزوجته . كان التشخيص صادماً لوالد عصام وأتت رياح مكره بما ﻻ تشتهي سفنه وشعر بغصة في حلقه من هذا الطبيب الذي نسف كل خططه في إبقاء عصام وحرق قلب أمه . ظل عصام في مدينة بغداد بضعة أيام يستنشق عبيرها ويرشف من ماء نهرها ويستلهم العظمة منها , إنها بغداد الإسلام وعاصمة العلم ومأوى العلماء . العودة إلى صنعاء في الطائرة وفوق مدينة صنعاء ينظر عصام إلى المدينة الحصينة ويتذكر ليالي الشتاء المظلمة التي قضاها في قبو الأحزان بعيداً عن نور الحياة وشمس الدنا . بدأ العام الدراسي الجديد لمرحلةٍ جديدة لطالبٍ طامح يغرقُ في وحْلِ الأحزان، لم تعوقه كل الصعاب التي عاشها ويعيشها أن يحقق المرتبة الأولى على زملائه، في حصة اللغة العربية تحدث الأستاذ منير عن اللغة وعظمتها ومجاﻻتها، وإهمال الأمة لها لهثاً وراء اللغات الأخرى تبعاً للآخرين ، وتنصلاً من لغتتا الرائعة التي تحفظ هويتنا وقيمنا . في إحدى دروسه عن التعبير الذي يخرج مكنونات الفؤاد، قرر عليهم تعبيراً مفتوحاً لكل طالب حقُّ الاختيار، مرت الفترة التي أعطيت لهم للكتابة فوقعت عين المدرس على عصام ليلقي ما كتبه أمام التلاميذ . نهض عصام ليقرأ ما أملاه عليه قلبه المكلوم من كلماتٍ تجسدت في بضعة سطور على ورقة بيضاء بُللت بدموع الشوق . أمي، ، في الساعةِ المشئومة التي غادرتُ فيها مرتعَ طفولتي قسْراً أحسستُ بأني أحملُ في كبدي كل أوجاع الدنيا، وأني لن أفلح في رؤية ثغركِ الباسم بعد تلك الحادثة، وضعتُ رأسي بين يدي، وتركتُ لعينيَّ الطريق مفتوحاً لتسيل أنهار الدموع المنصبة على خد طفل صغير تذكرني بكِ كلما نضبَ الشوق إليكِ من وعثاء الألم والحرمان . عندما غابتْ عني ملامح الحي الذي كنتِ نوره وبهائه أغمضتُ عيني في استرخاءٍ ناعس علَّ اضطراب أفكاري وخوفي ودموعي أن تهدأ قليلاً، جعلتُ أنظر من خلف تلك الحافلة التي حالت بين قلبين وجسدين،فتتجلى صورتكِ البهية تُضاهي شمس ذلك اليوم المشهود . أمي، ، في طريقي إلى مدينة الليالي المظلمة، لم تتزحزحْ صورتكِ من مخيلتي، صحيحٌ أنني كنتُ حينها في الرابعة من عمري لكن الحبَّ ﻻ يؤمنُ بقانونِ الأعمار، فوهجُ الحُب إذا تمكن في قلبِ المُحب يصير اليابس أخضراً والمالح عذباً سلسبيلاً .. مرّتْ في طريقي جبالٌ لم أرها في حياتي من قبل فشاهدتكِ فيها، رأيتكِ تتجلين في خشوعها ومهابتها، رأيتكِ في حقولها الخضراء وصخورها ومراعيها، رأيتكِ في الأودية التي تشقُّ عُبابَ الجبالِ الرواسي فتنشر الماءَ بين السواقي كما تنشرين حبكِ في ضلوعنا وقلوبنا العطشى إلا من مائك . أمي، ، سيُخلّدُ التاريخُ حُبَّنا ونِضالنا وجهادنا في نشر الحُب بين الأحجارِ المتحركة المتمثلة بهيئة إنسان. سيحتفي الكونُ بلقائنا في ذلك اليوم المشهود المولود من رحمِ الأمل، سيتحدثُ الجميعُ عن بكاءِ الشوق الذي ينبعث من قلبِ محبٍ عالجَ ظلامَ البُعدِ والفرقة والاجتثاث . أمي، ، حالي بعد غيابكِ مثل طير ألقتْ به الريح بين الدوح منتوفَ الذيل، فلا يقوى على تحديد الاتجاه يطير حتى يصطدم بشيء فيسقط ليستريح .. أذكركِ إذا أقبل الليل وخيَّم، فأظلُ أتقلبُ من ألمِ لآخر حتى أسقطَ على فراشي الرقيق في غرفة الآﻻم . انتظريني أمي كل يومٍ في كل مساءٍ وعند كل صباحِ ما بقيت الروح . أنهى عصام كلماته على وقع تصفيقِ حار من قبل المدرس والتلاميذ إعجاباً بما سطَّره من مشاعر دون علم بمقصودها .

في أحدِ الأيام وفي أثناءِ عودته من المدرسة وجدَ ورقةً في الأرضِ مكتوب عليها : مَا أجمل أن أواجه الظلامَ والأنواء والجُوع .. والمصائبَ والمآسي واللوم والتقريع .. كما يواجهها الحيوان وتواجهها الأشجار والزروع . وقع الكلام في قلبه وأحسَّ ببرد الرضا ينسكبُ بين ضلوعه من أثرِ الكلمات .

والدة عصام تدخل مدينة صنعاء للقاء فلذة كبدها، بدأتْ بالبحث عنه والسؤال عن مكانِ إقامته لتكتحلَ عيناها برؤيةِ طفلها المُختَطَف منذ سنين، بعد أيامٍ من البحث توجهت والدة عصام إلى حيث يعيش ، علم والده بالخبر فظهرت آثار الانتقام على وجهه، فأعطى توجيهاته بعدم خروج عصام من باب المنزل، كل هذا وعصام يتلوى في غرفته ألماً من آثار الضرب المبرح والحرق في جسده من قبل زوجة أبيه في الليلة السابقة . والدة عصام برفقة أختها أمام منزل والد عصام ، علم الجميع في المنزل بقدومها حتى عصام علم بذلك وبدأ قلبه بالخفقان، خرج والد عصام ليرى زوجته السابقة المظلومة منه على مر السنين والمكلومة على طفلها، فصاح في وجهها وهددها وأزبد وأرعد وعصام من خلف الباب يسمع، قالت له : أتوسَّلُ إليك ﻻ أريد إﻻ رؤية ولدي ولو للحظة، أقبِّل قدميك، كان عصام في الداخل يصرخُ باكياً وأمه في الخارج تبكي متوسلة مستجدية، نظر عصام إلى أمه من فرقة الباب وهو ينادي أمي أمي يا أمي ....! وهي تبكي وتنتحب وتصرخ عصااااام حبيبي سمعت صوتك ياحبييي ....! أمي .. يقولها ممزوجة ببكاء الحرمان ,أمي ﻻ تتركيني في براثن هؤﻻء .. أمي .. أمي .. كانت آخر كلمةٍ سمعها وأمه مدبرة مكرهة ودموعها تسبقها، لك الله يا عصام .. لك الله يا عصام .. خَفَتَ الصوتُ شيئاً فشيئاً لينقطعَ حبلُ الأمل الذي لاح بقدوم أمه .. دخل عصام في عُزلةٍ مع الحياة بعد أن سمع صوت أمه ولم يتمكن من لقائها بسبب جدران الشوك التي حالت دون ذلك .

اشتد الأذى من زوجة أبيه بشكل جنوني حتى كاد أن يلقى حتفه في مرات كثيرة . مرت سنتين متتاليتين بعد تلك الليلة التي مُنع فيها من لقاءِ أمه .. كل الذي رآه فيها الضرب والإهانة والتقريع والإذﻻل .

في إحدى الليالي شديدة البرودة ذهب عصام لنومه مبكراً بعد عناءِ يوم شاق في خدمة زوجة أبيه، سمع باب الغرفة يُطرق بشكل مثير، قام فزعاً من نومه يعتريه الخوف، تقدم نحو الباب لفتحه وإذا بزوجة أبيه تضربه على وجهه وترعد وتزبد وتهدد وتتوعد .. كل ذلك أنَّ عصاماً نسي خرقة (قطعة قماش) فوق الباب أغلقته ولم يفتح إﻻ بشدة وعناء .. وقبل أن تتركه في غرفته باكياً متوسلاً هددته أن الغداة سيكون يوماً خالصاً لتأديبك وتربيتك ! .

كان منتصفُ الليل موعد العصفور المختطف .. لم تكن ثمة فُسحة للتغريدِ بالنهار بعد اليوم .. وأنَّى له ذلك وهذه بنادق القناصة الخاطفون قد شرعت فوهاتها الرهيبة تجاه كل الأشجار الخضراء .. تنتظر سماع ترتيلة واحدة من ترانيم الشوق لإخراس صوت الحياة الجميل غدراً، بألف طلقةٍ وطلقة . ذهب النوم من عينيه، يفكر بحلٍّ للخلاص من شرها وظلمها، انتظر والده كي يشكوها إليه فأغلق الأبواب في وجهه وقال بصوتٍ منزعج سأمتُ من مشاكلك وأذيتك وسوء خلقك ، أغمض عينيه وبات بشر ليلة، ما أن صدحتْ كلمة التوحيدِ من مآذن صنعاء مؤذنةً بدخولِ فجرٍ جديد بعد ليل طال أمده، كانتْ لحظة الرحيل .

خرج عصام متخفِّياً متسللاً من المنزل للمجهول! ، لم يكن حينها يمتلك أي شيء ولم يكن بحوزته سوى ملابسه التي يرتديها ..أثناء نزوله علم بحركته أحد جيرانه من دولة السودان الشقيق فناداه متعجباً أين تذهب في هذا الوقت؟! سأرحل، نعم قررت الهرب من ظلمِ هؤﻻء الذين ﻻ يجيدون سوى قتل الحياة , لم أعد أستطيع العيش هنا، أخذه في أحضانه وقال له منذ فترة تمنيتُ لك ذلك , الفرارُ من هولِ الجحيم الذي تعيشه منذ سنين .. أعطاه مبلغاً من المال وقال له استودعك الله يا بُني وأشاح بوجهه باكياً لحال الطفل وما آل إليه الأمر . عصام يتحدث عن نفسه في تلك اللحظة : عندما قررتُ الفرارَ من سجنِ الآﻻم خرجتُ حبواً نحو عَالَمٍ ﻻ أعرفُ عنه وفيه سوى امرأةٍ تقضي ليلها تُرتل ترانيم الأحزان المسمى بسيمفونية الأسى، خرجتُ هائماً على وجهي كطيرٍ شارد، أركضُ ﻻ أدري أين طريقي، ألقيتُ بنفسي في أحضانه أتلمَّس معلماً ألجُ منه إلى البقعة العتيقةِ التي اختُطفت منها .. حاولتُ أثناء هروبي إلى الحرية أن أكبح جماح الألم حتى ترسوا سفينة قلبي على شاطئ قلبي! وشعرتُ برغبةٍ عارمةٍ في البكاء يسكٍّن آﻻمي الغائرة في جدران قلبي المكلوم .. كانتِ المدينة نائمةً يوم قررتُ الرحيل، تُهْتُ في الدروبِ والأروقة، لم أجدْ بُداً من انتظارِ ميلادِ شمسِ الحياة ، ليُبعثَ الموتى من قبورِ مساكنهم فأسألهم طريق العودة إلى الوطن! أعني أمي . أفاق القوم من سَكْرةِ نومهم على طفلٍ حافيَ القدمينْ يخطوا كالملهوف ﻻ يدري أين يسير! تمرُّ الحافلات محملة بأشخاصٍ يصنعون الحياة مع كلِ صباح، يسيرُ إليهم ويلوِّحُ بكلتا يديه أن قفوا، لكن أحداً لم يقف .

المارة يسيرون وهو يتأمل في سحنات وجوههم وهيئاتهم عله أن يظفر بمن يدله على سيارةٍ تقله من صنعاء لمدينته اليتيمة، أمام موكب السيارات المتنقلة بين المدنِ والمحافظات وقفَ عصام يبحث عن مكانِ مدينته التي تركها منذ سنوات، فأثناء عثوره عليها، كانت المفاجأة أن الجميع رفض إيصاله وحمله لصغر سنه، وهنا كادت أن تظلم في وجهه السماء متخطية إشراق الصباح الجميل، لكنه بحيلة ذكية استطاع أن يقنع السائق بحجة مكَّنتْه من صعودِ السيارة متجهاً إلى حيث هواه . شريط الذكريات يمر في خاطره وهو في طريقه للعودة هرباً من جور القريب، تساءل في نفسه عن الأسباب التي حملت والده أن يفعل به كل الذي فعل، تذكر كل ليلة يهجم عليه الليل بسكونه وسطوته حاملاً معه الخوف والبرد في قلب طفل بائس راح ضحية انتقام رخيص، لتصبح قصته عنواناً صارخاً لآباء يعقون أبنائهم، تذكَّر الضرب والشتم والإذلال والتعيير والإهانة وانتهاك أبسط حقوقه وكرامته في زمن اللاإنسانية . ضوء الشمسِ القادمِ من خلفِ جبال صنعاء العتيدة ينشرُ الحياة في المدينةِ التي شهدت معاناته وعلى مسرحها كانت قصة الشقاء، جداول الماء وزقزقة العصافير، والطيور الراحلة للبقاء، وخضرة الأشجار وشموخها ، جمالٌ قشيبْ أزاح غبار الأسى عن عينيه، ورسالة إلهية مفادها أنَّ الحياة جميلة وإن لُطختْ بالسوادِ من قبل بعضِ الأحجار . الغيوم تتجمع والسماء توشك أن تبكي خطايا التُعساء، وبؤسَ الأشقياء، وظلم ذوي القُربى .

لا يعرفُ المدينةَ جيداً وﻻ يستذكرها فالوردة إن قُطفتْ أنَّى لها أن تتفتَّح وترى النور، نزل عصام إلى المدينة بحثاً عن نصفه الآخر، فمنذ ثمان سنوات أو تزيد وهو يبحث عنها في اليقظة والمنام، كما تاه في أروقةِ صنعاء بحثاً عن المخرج يتوه الآن في أروقة مدينته بحثاً عن سقفِ بيتٍ صغيرٍ يأوي الحياةَ بداخله . أمامَ المنزلِ القديم أقفْ، هزتني الأشواقُ إلى الأيامِ الخوالي، فلم أستطع يا سادتي كبح جماح الحنين إلى ترابه وأعمدته، فألقيتُ بنفسي وروحي نحوه لأرتقي في معراج المحبين بلقاءِ من أحب، فُتح الباب، رأتني جدتي التي احدودب ظهرها فما عرفتني لكنها اشتمَّت رائحة حفيدها فصرختْ من أعماقِ فؤادها، عصام .. جاء عصام .. ارتميتُ في أحضانها، لأدخل في إغمائة لبضع ساعاتٍ من هولِ الإرهاقِ والمصاعبِ والآﻻم التي لحقتْ بي، أفقتُ لأجد البيتَ مكتظاً بالبشر أهلي وأقاربي وجيراني .. قلّبْتُ النظرَ فيهم أبحثُ عنها، سمعتُ صوتاً يشقُّ الحاضرين " أمك ستأتي الآن " .. إذاً لم تكنْ أمي في تلك اللحظة بين الجمع، أخذوني في أعماقِ أحضانهم قبَّلوا رأسي ويدي وجميعنا يذرف دموعَ اللقاء .. أخبرتهم بما حدث لي من يوم الاختطاف إلى لحظة الوصول إليهم .. أصبح المنزل يومَ عيد، كل من سمع بقدومي جاءَ إلى البيتِ زائراً .. بعد ساعاتٍ من الانتظار قدمتْ أمي ، طرقت الباب فشقَّ لها الحاضرون الطريق إلى الحبيب، التقتْ عيني في عينها لأول مرةٍ منذ ثمانِ سنوات، لم أقوى على الحراك، أتأمّلُ كل شيء في أمي بعد أن فرقتْ بيننا الأحجار، هرعتْ أمي نحوي وهرعتُ نحوها لأقبِّلَ يديها وأذوبَ في أحضانها ، وأدفن في صدرها حريق قلبي، هربتُ بين ذراعيها من الليالي الموحشة والنظرات القاسية التي لم تحتملها نفسي , ما من أحد كان موجوداً إﻻ وانفجر باكياً حتى سماء تلك الليلة بكتْ قليلاً من حميمية اللقاء بين طفلٍ مُخْتَطَف وأم هدَّها الشوق .. استيقظ والد عصام يبحثُ عنه فلم يجد أحداً في الغرفة، وجد ورقةً مطوية في فراشِ عصام : السلام عليكم .. والدي، ، من شقاءِ الأيامِ أفِرْ، ومن هَولِ الليالي المظلمةِ أرحل . فررتُ من جحيمكِ إلى جنة الله ، ، ثمان سنوات أو تزيد نلتُ فيها منكما أنتَ وزوجك كل أصناف العذاب والإذﻻل والكبتِ والاحتقار .. ما زالتْ جروحي الغائرة في جسدي شاهدة على جُرم فظيع حلَّ بطفلٍ صغير .

ما زلتُ أتذكر كيف صيّْرْتني عبداً لزوجتك، ما أنصفتني يوماً من ظلمها، ما تحركتْ فيك يوماً عاطفة الأبوة، كنتُ أقصدكَ شاكياً من ظلمها فتغلق في وجهي الأبواب، كنتُ أتمنى الموتَ بسببكما . سأرحل ولن تراني بعدها .. وتذكر أن ثمَّة يوماً يجتمع فيه الخلائق، ويُنصب الميزان ، ويقضي الله بين الخصوم .. تذكر أنكَ ستكونُ خصمي ولن أسامحك . ولدكَ عصام .

عدد القراءات : 3149
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات