احدث الاخبار

عندما يمتزج الحديد بالدم

عندما يمتزج الحديد بالدم
اخبار السعيدة - بقلم - خالد بريه         التاريخ : 15-05-2013

 

 

أثناء عودتنا من المدرسة كنا نسمع صوت الطائرة من بعيد يشقُّ عباب السماء نطير فرحاً وننتشي سعادة لرؤيتها وكأننا من ركابها , وما أحببناها إلا لغرابتها وتعجبنا كيف تحلق في السماء بكل شموخ وإباء دون أن تسقط .
 
صديقي نبيل شُغف بعالم الطائرات وأصبح من هواتها ويعرف الكثير عنها ويستهويه مظهرها وهي تحلق بكل ثبات قبيل الغروب فوق البحر وعلى مقربة من الشمس الراحلة كما يُخيل للناظر . 
 
دائماً يهمس في أذني أريد أن أكون طياراً , كنت أبعث فيه الأمل بكلماتي وأناديه " بالكابتن " . 
 
على مقربة من باب الجامعة التقيت بصديقي الذي فصلني عنه الزمان وأصحبت مرحلة الدراسة من ذكريات الماضي الجميل . 
تفاجأت عندما علمت أنه يرغب الالتحاق بكلية الطب , سالته : أين حلمك الذي انتظرتَه طويلاً ؟
قال لي : كان حلماً جميلاً لكنني أدركت أن دخولي الطب سينفع الله بي خلق كثير وأريد أن أضع بصمة في الإنسان المسكين الذي أنهكته المتاعب والآلام . 
 
وثمت سبب آخر بغَّض إليَّ هذا الحلم الجميل . 
قلت له : وما هو ؟
 
أجابني منزعجاً بدأت أبغضها عندما رأبتها أصبحت سبباً في دمار البشر والحجر .
 
وامتلاً قلبي كرهاً لها بكل قطرة دم تسببت في سفكه ,, إن طائرات الشيطان التي لا ترحم أحداً كشفت قناع الأفاعي الحاملة على ظهرها لواء الدفاع عن حقوق الإنسان الذي قتلته . 
يا صديقي إذا انكشفت السماء فسدتِ الأرض وعربد الظلم وعمَّ الضباب وخيم الظلام لتصبح الرؤية ضبابية مضطربة , لا ترى شيئاً ولا تسمع إلا طائرات تنتهك عذرية سمائنا وتدوس على ما تبقى من استقلالنا وسيادتنا بحجج قبيحة سيتحدث التاريخ عنها في صفحاته السوداء أنَّ أمة في زمن مضى سمحت لعدو سافر أن يستبيح سمائهم ويسفك دماءً بريئة امتزجت بالبراءة تارة والتأويل أخرى تحت شعار " محاربة الإرهارب " الذي قُتل الأطفال ورملت النساء وسالت الدماء في الأروقة بسببه .
 
وأصبح الناس يتحسسسون السماء علَّ صوتاً مشئوماَ يأتي فيحيل الأرض العامرة إلى يبابٍ وأشلاء ودماء ودمار . 
قلت له : صدقت ,, وابتسمت ابتسامة " إعجاب وإكبار " ووضعت يدي على كتفيه مباركاً وداعياً ومعجباً لمستوى الفكر والنضج الذي وصل إليه . 
 
في السنة الخامسة من دراسة الطب في الفصل الجامعي الأول يسافر نبيل إلى مدينة صنعاء لحضور مؤتمر طبي .
كانت شمس الظهيرة تقف في قلب السماء عندما شاهد الناس طائرة عسكرية تهوي من رحم السماء لترتطم في إحدى البنايات في شوراع صنعاء التي باتت تعرف سماؤها " بممطرة الطائرات " . 
 
تناقلت الخبر وسائل الإعلام المختلفة وانتشر كالنار في الهشيم وهرع الصحفيون من كل حدبٍ وصوب لتغطية الخبر المرعب لينقلوا الحقيقة من خلال شهادتهم وعدساتهم التي لا تفارقهم . 
 
وصلتني رسالة إخبارية على جوالي تفيد أن طائرة تحطمت في صنعاء وأنباء عن إصابات وقتلى , ركضت مسرعاً إلى التلفاز لمشاهدة ما حدث فرأيت طائرة محطمة امتزج فيها الحديد بالدم . 
 
ما هي إلا لحظات لتظهر صور الضحايا في شاشات التلفزة فكانت الفاجعة فانفلت مني زمام روحي , وانكسر ميزان إرادتي , واختلَّ استواء فكري حينما شاهدت صديقي الذي أمضى حياته عاشقاً للطائرات يُسحب من كثبان الحطام جثة هامدة ودماؤه تملاً المكان لتكون شاهدة على جرم غامض وجريمة مستترة وإهمال فاضح وكارثة مؤلمة .
كفكفت دموعي وأنا أغالب عبرتي وأتذكر صديقي الطبيب الذي قرر أن ينقذ البشرية بعلمه فكوفئ بالموت من طائرة أمضى عمره هائماً في حبها .
 
إن موت نبيل طعنة في خاصرة دولة تعيش إهمالاً وفوضى جعلتنا في مصاف الدول الفاشلة .. وتعيش فساداً عميقاً ينخر في كل مفصل من مفاصلها . 
كان صديقي واحداً ممن رابط في الساحات لإسقاط نظام أبدع في صنع الإهمال والفشل والجهل ويُعدُّ واحداً من أبرز الأنظمة في الفساد . 
 
لكن تبقى الحقيقة أن صديقي الثائر الذي كان ينشد الدولة العادلة الآمنة الحديثة يموت وعيناه لمَّا ترى بعد كل ذلك .
عدد القراءات : 1863
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات