احدث الاخبار

أدب الاختلاف برؤية الإمام البنا

أدب الاختلاف برؤية الإمام البنا
اخبار السعيدة - بواسطة - أ. د. محمد سعد عبد اللطيف         التاريخ : 15-12-2011

الاختلاف بين العلماء –في كافة المجالات وشتى الاتجاهات- أمر لا مفر منه ومن المستحيل إلغاؤه كما قال الإمام البنا رحمه الله . ولكن هذا الخلاف يجب أن يتم في سياق الضوابط والأسباب التي حددها الإمام الشهيد سابقا تَبَعاً لغيره من العلماء –كما سنبين لاحقا- ، ثم بعد ذلك يجب أن يكون مقرونا بأدب بإبداء وجهات النظر بين المجتهدين في مسألة الاختلاف المثارة بين الأطراف ، من غير تفسيق أو تجريح ونحو ذلك من صور الإرهاب الفكري التي يمارسها البعض . وقد قرر الإمام البنا ذلك وأخذ جماعته ورواده وتلاميذه بتلك الفلسفة الأدبية المحترمة الرفيعة في كافة الاختلافات والردود العلمية الرصينة . لكن البعض يجد متعة في قضايا الخلاف ليثور ويفور ، وظاهر أمره الغضب للدين ، وهو في الحقيقة ينفّس عن طبيعة معتلة ، وتربية ناقصة أو مفقودة . وبيان ذلك أن الاختلاف إنما يكون من أجل تقرير مسألة علمية معينة ، بغض النظر من صاحبها ومن القائل بها ؟!

وقد اختلف الأئمة الكبار مع بعضهم لكن لم يتحول الأمر إلي شقاق وشجار أو إلي تفسيق وتجريح للمخالف كما نري بعض المتشددين في عصرنا.

وقد جمع تلك الفلسفة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في عبارة / نظرية ، رائعة ، حيث قال : "لا يجوز أن يستحيل الخلاف الفقهي إلي خلاف شخصي" .

وهذه الفلسفة كانت سائدة عند السلف الصالح ، فربما خالف بعضهم بعضا ، ثم تجالسوا وتعاونوا وقدَّسوا الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية ، واستشعروا قول الله عز وجل ﴿وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ (سورة المؤمنون 52) ، وقوله تعالي ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدو ﴾ (الأنبياء 92) . وقول الرسول صلي الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي" .

لكننا نرتد بأبصارنا في هذا العصر فنجد أن لا أحد يقبل الآخر ، أو يرتضي قول المخالف ، مع أن في الأمر سعة ، ومع أنه إذا كان حقا مخلصا للعلم ما اعتدي علي مخالفه بالسب والقذف بل سيفند قوله بالتحقيق العلمي والتأصيل المنهجي فقط "إنما أنت نذير" .

ولفت الإمام ابن مفلح نظر العالمين إلي هذا المنهج الرصين في أدب الاختلاف عندما ساق قاعدة شرعية ونسبها إلي الإمام أحمد بقوله "لا يجوز للفقيه أن يحمل الناس علي مذهبه" . ويقول الإمام النووي رحمه الله :"لا إنكار في المختلف فيه" .

ونريد أن نبين أن الإمام البنا كان صاحب مدرسة الإحياء في ذلك الشأن وكان باعثا لا مبتدعا .

فهناك نماذج كثيرة لأدب الاختلاف بين العلماء الكبار نسوق بعضها كي نقف علي أقوالهم وأفعالهم في ذلك الجانب ، كي تعرف أن الإمام البنا كان وقافا ومستقرئا لتاريخ أمتنا جيدا .

يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: لما وقف الحافظ الإمام عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري علي كتاب "المدخل إلي الصحيح" للإمام الحاكم النَّيسابوري صاحب "المستدرك علي الصحيحين" ، واطلع علي ما فيه من أغلاط وتصحيفات : نبّه عليها مع تصحيحها في جزء وأرسله إلي الحاكم ، وجاء في مقدمة هذا الجزء من كلام عبد الغني الأزدي ما نصه : (فإني نظرت في كتاب المدخل الذي صنفه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، فإذا فيه أغلاط وتصحيفات أعْظَمتُ أن تكون غابت عنه ، وأكْثَرتُ جوازها عليه ، وجَوَّزتُ أن يكون جرى من ناقل الكتاب له ، أو حامله عنه ، مع أنه لا يَعْري بشرٌ من السهو والغلط .

واستخرت الله تعالي ، وجردتُ ذلك في هذه الأوراق ، وبينته وأوضحته ، واستشهدت عليه بأقاويل العلماء ، مجتهدا في تصحيحه ، متوخيا إظهار الصواب فيه ، وبالله أستعين ، وإياه أسأل السداد والتوفيق بمنه وكرمه) .

وهكذا يكون الجمع بين الأدب والنصيحة بإظهار الحق .

ولما وصل هذا الجزء إلي الحاكم فكان منه ما حكاه الحافظ عبد الغني نفسه حيث قال : (لمات وصل كتابي الذي عملته في أغلاط أبي عبد الله الحاكم ، أجابني بالشكر عليه ، وذكر أنه أملاه علي الناس ، وضمَّن كتابه إليّ الاعتراف بالفائدة ، وبأنه لا يذكرها إلا عني ، فعرفت أنه رجلٌ عاقل) .

وكانت هناك جفوة بين شيخ الأزهر الإمام الشيخ حسن القويسني والعلامة الجليل الشيخ محمد الأمير ، وبلغ ذلك حاكم البلاد ، فأرسل للشيخ الأمير يسأله عن سبب الجفوة ، وأخبره أن الشيخ القويسني حدثه عنها ، إلا أن الشيخ الأمير قال : ليس بيننا إلا الخير ، وما أظن الشيخ القويسني حدثك بشيء من هذا ، وأثني الشيخ الأمير علي الشيخ القويسني خيرا ، ولما انصرف من عند الوالي ذهب إلي الشيخ القويسني وأخبره بما حدث ، فقال له : صدقت في ظنك ، ما قلت للحاكم شيئا ، فقال الشيخ الأمير : "هكذا أهل العلم ، يسوون ما بينهم في خاصتهم ، وأما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة للتآلف والخير وإمساكا علي عروة الإسلام ، وحفظا لكرامة العلم". وبذلك زال ما بينهما من جفاء .

وهنا لمحات نقف عليها :

فهذا الأدب الرفيع بين أهل العلم تجده عند سلفنا الصالح ، وللشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة رسالة لطيفة في هذا الصدد اسمها "رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي" .

هذا النموذج رائع للعلماء واحترام بعضهم لآراء بعض ، ولما كانوا عليه من التواد والتآخي مع اختلافهم في المسائل العلمية ، وشدة المراعاة للألفة والمحبة بينهم .

هذا مثال عملي حي يعبر عن منهج علماء الأمة في أدب الاختلاف ، إنهم أرادوا أن يلفتوا أنظارنا إلي شيء مهم جدا ، وهو أن الاختلاف طبيعة بشرية وسنة كونية "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" ، بيد أن المهم أن يظل الاختلاف في أروقة العلم وحظائر المعرفة ، فلا يتعدي إلي ممن ليسوا من أهل الفن . أَلاَ تري أن خلافات الأطباء حول تشخيص داء لا تنسحب إلي ساحات المرضي ! بل تظل في الحقل الطبي الأكاديمي البحت ، وحجة الإسلام الغزالي عندما صنف "إلجام العوام عن علم الكلام" كان هذا المعنى هو مرماه .

كذلك لا ينبغي أن يستحيل الخلاف العلمي المحض إلي خلاف شخصي ، ينبغي أن نتعلم كيف نختلف علميا ونتآلف إنسانيا ، تلك هي الثورة الثقافية التي ندعو إليها ، وما هي إلا اتباع لمنهج السلف الذي يجب أن نعتني به وندندن به تنظيرا وتطبيقا .

لذلك فالإمام البنا في فلسفته التي آمن بها ودعا إليها لم يكن شاذا في الرأي ولم يكن مبتدعا لرأي جديد بل كان كما قلنا باعثا لفكر الأمة العقلاني المنفتح في أوج حضارتها وقمة تقدمها ، وأخذ الإمام البنا علي كتفيه مهمة إزاحة التراب من علي هذه الدرر ، لكنه أخذ أتباعه بها فجعلها تنظيرا وتطبيقا .

وكان الإمام الشهيد رحمه الله مؤدبا في خلافه ، فاختلف مع القصر ، واختلف مع مشايخ الأزهر، واختلف مع كثير من معاصريه إلا أنه كان مؤدبا في اختلافه ، ولم يُصادر رأي الآخر ، ولم يفصم الوثاق الإسلامي ولا الأخوة الإيمانية بينه وبين مخالفيه . وقد بينا ذلك في مقدمة البحث عندما سأله أحد الناس في مسألة خلافية ، فجاوب الإمام الشهيد إجابة تخطف الألباب ، وتجمع القلوب ، وتوحد الهدف ، وتُفرد الراية .

الإمام البنا يستلهم فلسفة السلف

نري أن نظرة الإمام البنا في مسائل الاختلاف إنما هي عودة لفلسفة السلف من هذه الأمة في ائتلافهم وتعاونهم الوثيق حتى في ظل الاختلاف .

ففي عصر الإمام البنا وما قبله كان إذا خالف أحدٌ أحدا في مسألة علمية ، هجَره وقطع الرباط الذي بينهما .

فأراد الإمام البنا أن يجعل من الخلاف العلمي سندا للرأي ، وإثراء لوجهات النظر ، لا سندا للتخاصم والشقاق .

وتلك الفلسفة نجدها عند الأئمة الكبار في عصور النهضة والتألق للدولة الإسلامية .

فالإمام الذهبي وهو حنبلي العقيدة شافعي المذهب ، يُثني كثيرا علي تقي الدين السبكي مع أنه أشعري العقيدة ، وكان تقي الدين من أشد خصوم ابن تيمية أستاذ الذهبي .

وتتلمذ العلامة المحدث إمام أهل الجرح والتعديل في زمنه الشيخ الدارقطني علي العلامة المتكلم الباقلاني الأشعري ، وذهب الدارقطني إلي الباقلاني وقبله بين عينيه وقال : هذا يرد علي أهل الأهواء باطلهم ودعا له ... "تاريخ ابن كثير 11/342"

وتتلمذ العلامة المحدث ابن سكينة الصوفي –أحد المجاذيب الأبدال- علي الشيخ ابن الجوزي، وابن الجوزي أحد خصوم التصوف الأقوياء وهاجم الصوفية هجوما شرسا في صيد الخاطر ، وتلبيس إبليس وغيرهما من كتبه . ومع ذلك أبقي علي المودة الإنسانية والرابطة الإسلامية ، مع تلامذته الذين خالفوه في لب المذهب ولم يمنعهم علمه أو مودته .

وكذلك تتلمذ ابن الجوزي نفسه علي علماء متصوفة وكانوا من أساتذته الكبار ، كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء . فمن مشايخه وأساتذته الصوفية الشيخ العلامة أبو الوقت السجزي الصوفي حدث عنه ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي .

وكذلك تلقي حجة الإسلام الغزالي الصحيحين علي الشيخ المحدث أبي الفتيان عمر الرواسي ، واستقبله في بيته وأكرمه ، والغزالي صوفي كبير بل هو مُنظّر التصوف السني علي الإطلاق ، والرواسي أحد كبار السلفية في عصره . ويقول شيخ مشايخنا العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة معقبا علي هذا الخبر : وفيه من الفرائد سماع الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالي الصحيحين عليه ، وهو غير سماعه "صحيح البخاري" من أبي سهل الحفصي ، وهي لمعة في حياة الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالي .

وفيه إكرام الغزالي الصوفي للمحدث السلفي ، وبيان ما كان بينهما من تسامح ومكارمة وتقدير ..."صفحات أبي غدة 73"

فهذه فلسفة السلف في عصر النهضة الإسلامية وسيادة المسلمين ، فجاء حسن البنا رضي الله عنه وعمل علي بعثها وتذكير الخلائق بها من جديد . أن لا نهضة إلا بالاحتواء وقبول الآخر ، ونسيان الخلافات التافهة والثانوية مقابل الاهتمام بالدعائم والأسس والأركان . ولما طبقت هذه الفلسفة تقدم المسلمون ولما تفرغوا للمشاحنات الجانبية فقدوا هيبتهم وتناسوا ثوابتهم وهويتهم وصاروا في أذناب الأمم .

أيعقل أن نظل نقيم المعارك الطاحنة من أجل اللحية والنقاب والجلباب ، وما أشبه . وديار الإسلام تتخطف من جنباتها ؟!

أيقبل عاقل أن تقام المعارك الطاحنة للوضوء من لحم الجذور وما أشبه ؟!

إن الإمام الشهيد رحمه الله ، استقي فلسفة السابقين الأولين ، وتشربها ، وأمعن نظره فيها ثم أراد أن يبعثها في أبهي حلة وأرقي صورة ، كي تُجبذ أنظار العالمين إلي هذا السمو ، وتلك العبقرية التي استطاعت أن تبني حضارة قائمة علي المشاركة والتنوع .

إذا فُهمت فلسفة الإمام الشهيد في منهجية الاختلاف عموما –وليس الاختلاف الديني الفقهي فقط- سوف تتلاشي الخلافات السياسية والاجتماعية والعلمية بين طوائف المجتمع ، لأننا وقتئذ لن نطالب الآخر بتغيير منهجه بل سنطالبه بالتعاون والمشاركة ، وسوف نعتبر ذلك إثراء للحياة العلمية والسياسية ..والاجتماعية .

 

قد يظن أحدهم أن تلك مدينة أفلاطون !! لكنها كانت واقعا عمليا عايشه المسلمون في عصور حضارتهم ، وبعثه البنا وأذاعه ونشره ، وأخذ به أتباعه ، فهل نلتفت إلي صوت الإمام الشهيد في ظل هذا الضجيج والصخب الذي نعيشه الآن ؟!!

عدد القراءات : 6155
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات