احدث الاخبار

رؤية شرعية في أحداث اليمن

رؤية شرعية في أحداث اليمن
اخبار السعيدة - كتب - د. محمد عبدالله عايض الغبان         التاريخ : 25-06-2011

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد / فإن ما حلّ ببلادنا من فتن واضطرابات لأمر خطير، يفرح العدو ويسيء الصديق، ومما لا شك فيه أن ذلك كله بقضاء الله وقدره الكوني الذي لا رادّ له (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) فنسأل الله تعالى أن يجيرنا في مصيبتنا وأن يخلف لنا خيراً منها .

 

إن الفتن إذا ما ادلهمت ببلد وتقبلها الناس بالتفعيل والتنظير، فإنها تغدوا كاللهب يحرق ما يصادفه،  ولا سيما إذا كانت الأجواء مهيأة، ولديها قابلية ومشكلات متراكمة اقتصادية واجتماعية وسياسية ومذهبية، كما هو حال بلادنا التي عانت من حروب وويلات وثورات متتالية على مرّ العصور، فكلما أطفئت فتنة أعقبتها فتنة أخرى من جنسها أو قريب منها، وهذا أدى بدوره إلى شروخ في المجتمع لا تندمل، ولولا أن أهل اليمن أهل إيمان وحكمة ورقة لكان الوضع أسوأ بكثير مما هو عليه الآن، واليمن ليست بمنأى عن محيطها العربي والإسلامي، لكن عوامل الفتن فيها قابلة للتجدد والتمدد لعوامل عدة .

 

وإن هذه الفتنة التي أطلت علينا اليوم كانت بداياتها تجمعات وتظاهرات للمطالبة بإصلاح الوضع المالي والإداري للبلاد، وبناء الدولة المؤسساتية حتى وصلت إلى مرحلة التناوش والقتال، فلا يكاد يمر يوم إلا وتسفك فيه الدماء، وأضحى الوضع في مأساة لم يشهد له نظير منذ عقود، وتمسك كل طرف بمواقفه السابقة المعارضة والحكومة على حد سواء، بل إن سقف المطالب تتطور كلما طال أمد الأزمة، وكل طرف يأمل في إضعاف خصمه والخروج بمكاسب ذات قيمة، ومما يلاحظ أن جانباً من الأزمة شخصي عائلي هذا على الأقل في نظري، فبنو الأحمر بعضهم يمثل المعارضة والبعض الآخر يمثل الحكومة، وكلا الفريقين لديه القدرة المالية والحزبية والتنظيمية والقبلية التي تؤهله للثبات والإصرار، والضحايا هم أبناء الشعب المغلوب على أمره سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين .

 

إن الحكومة الحالية هي حكومة حزب المؤتمر الشعبي الذي حاز على الأغلبية المريحة في الانتخابات الأخيرة على حد زعمهم، وكان للمعارضة وعلى رأسها حزب الإصلاح النصيب الأقل من المقاعد فصنفوا في المعارضة، وعانت المعارضة خلال الفترة السابقة من الإقصاء والتهميش داخل مجلس النواب وخارجه .

 

وقد أظهر حزب المؤتمر الشعبي العام جشعاً في السلطة وفي الحياة العامة دون نظر إلى عواقب الأمور ودون اكتراث بحقوق المعارضة على ما تقتضيه اللعبة الديمقراطية الغربية التي رضي بها جمع الفرقاء كخيار وحيد لانتقال السلطة .

وبدورها فإن المعارضة ردت الصاع بصاعين، وظلت تناوئ الحكومة في شتى مناحي الحياة العامة بأسلوب استفزازي وجحود لكل شيء بحق وبغير حق، وغدت وسائل الإعلام بكل صورها ميادين لفتل العضلات والتنكيل بالخصم دون مراعاة لخلق أو دين أو حتى للمعايير المهنية الصحفية التي صارت في خبر كان.

 

وهذه الأحزاب انتظمت في تكتل عرف بأحزاب اللقاء المشترك، وهي تشكل طيفاً غير منسجم مع بعضه، لكن هدفهم الآني إسقاط الحكومة والوقوف ضدها بكل وسيلة متاحة وإسقاط الرئيس قبل إتمام دورته الانتخابية، والمتابع لهذه الأحزاب وتأثيرها على الساحة العامة يلحظ ضآلة حجمها باستثناء حزب الإصلاح الذي يحظى بشعبية كبيرة، لكن هذه التكتل جعل هذه الأحزاب الضعيفة في الصدارة، وهي إضافة إلى الإصلاح : الحزب الاشتراكي، والحزب الناصري، والحزب البعث العربي (فرع سوريا) وحزب الحق، وحزب اتحاد القوة الشعبية. وبعض هذه الأحزاب عفى عليه الزمن ومجه الناس كالحزب الاشتراكي، وحزب الحق هو لسان الحوثيين الرافضة الذين عاثوا في الأرض فساداً، وأشعلوا سبعة حروب ضد الحكومة، فشكل تكتل الإصلاح معها مهام المنقذ الذي انتشلها من الحضيض، وجعلها تستقوي بنفسها من خلال هذا التكتل الغريب، ولكل حزب من هذه الأحزاب منهجه وعقيدته السياسية والاجتماعية والدينية.

 

ولا يستغرب من حزب الإصلاح ذي التوجيه الإسلامي العام تحالفه مع هذه الأحزاب، فقد سبق له التحالف مع المؤتمر الشعبي العام الحاكم، بل وشاركه في الحكم، فلما استأثر المؤتمر بالحكم حصلت القطيعة بينهما على مراحل، وأما الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية ورئيس حزب المؤتمر الشعبي العام فقد كان يحظى بالرضا التام من حزب الإصلاح، بل يمكن القول بأن الذي دعم حكم الرئيس خلال فترات الرئاسة هو هذا الحزب، وجنى الحزب من وراء ذلك مكاسب كبيرة على الساحة اليمينة وبنى مؤسساته وتنظيمه تحت سمع وبصر ومساندة الرئيس، وتوجت الشراكة بينهما في حرب الانفصال الذي أطاح بالحزب الاشتراكي الشريك الثالث للحزبين (الإصلاح والمؤتمر) في أحداث دامية مؤلمة لا تنمحي آثارها.

إلا أنه نتيجة للإقصاء الذي مورس ضد حزب الإصلاح من الرئيس وحزبه في الفترة الراهنة وقبلها، وقف هذا الحزب ضد انتخاب الرئيس في الدورة الأخيرة، بل وساند بقوة المرشح فيصل بن شملان، ومنذ ذلك الحين تأزمت العلاقة بين الحليفين السابقين، وزادت الفجوة بينها بعد وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس الإصلاح، الشخصية القبلية المؤثرة في مجريات الأحداث، وقف أولاده في مفترق طرق، ولم يحظوا بالمكانة التي كانت لأبيهم من قبل الرئيس وحزبه، بل وأحسوا بشيء من القطيعة والاستئثار من قبل الرئيس وحاشيته، فتولد من ذلك صراع خفي بين الفريقين كل يريد ابتزاز الآخر واغتنام الفرصة للانتقام والاستحواذ على السلطة .

 

وإزاء هذه الأحداث والمواقف حصل ما لم يكن يخطر على بال، إذ قام أهل تونس وأهل مصر على حكامهم بثورة عارمة اقتلعتهم من عروشهم في فترة وجيزة وبأقل الخسائر الممكنة، كانت هاتان الثورتان بمثابة الملهم للشعوب العربية التي تتوق إلى الحرية والكرامة الإنسانية، وتتطلع إلى مستقبل أفضل من حال الذل والمهانة الذي جثم عليها عقوداً من الزمن، وكانت اليمن سباقة في استلهام هذه الثورة، وشكلت فرصة سانحة لأحزاب اللقاء المشترك، الذي دفع بجماهيره إلى الساحات للاعتصام والمطالبة بالتغير، وتوج هذه الاعتصامات والتظاهرات في صنعاء القيادية في حزب الإصلاح: توكل عبدالسلام كرمان، التي تحظى بدعم منظمات دولية كبيرة، ولها أنشطة داخلية وخارجية، ثم تتابعت الاعتصامات والتظاهرات في عموم محافظات الجمهورية، وحظيت بالدعم الكامل من أحزاب اللقاء المشترك مادياً ومعنوياً، وكان لنجل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر العضو البارز في الإصلاح الأثر الكبير في ثبات وتطور هذه الاعتصامات والمظاهرات، التي ارتقت في أهدافها إلى حد المطالبة برحيل الرئيس علي عبدالله صالح عاجلاً غير آجل، ولاقت هذه المظاهرات استحساناً ودعماً كبيراً من فئات الشعب ومكوناته ومن بعض القبائل في شتى أنحاء الجمهورية، وبالمقابل وقفت فئات أخرى من الشعب والقبائل مساندة للرئيس وحزبه، فانقسم بذلك أهل اليمن إلى قسمين مؤيد ومعارض، في صورة تنذر بخطر داهم ومواجهات مسلحة إن لم يتم العلاج سريعاً.

 

ولست مبالغاً إذا قلت إننا على شفا حرب أهلية، إن لم نكن واقعين فيها، وما سفك الدماء للعسكريين والمدنيين على حد سواء إلا دليل على هذه الحقيقة .

 

وتضررت حياة الناس العامة والخاصة من هذا الوضع المخيف، وتعطلت كثير من المؤسسات، وتوقفت حركة التعليم، وتسرب الموظفون من إداراتهم بحجة الاعتصامات والمظاهرات، وتضرر الاقتصاد المنهك أصلاً بأضرار جسيمة بلغت مليارات الدولارات، وانقطعت خدمات بعض المصالح العامة، وانعدم الغاز أو كاد، وتعثر إمداد السوق بالمشتقات النفطية، وكل من المعارضة والحكومة يلقي باللوم على الآخر، والمواطن المسكين المغلوب على أمره يتجرع كل هذه الويلات والنكبات، رغم ما يعانيه أصلاً في حياته المعيشية من شظف وفاقة وعنت، كل هذا تصوير مبسط للواقع المؤلم الجاثم على بلادنا الغالية، بلاد الإيمان والحكمة، الذي يدعي الكل حبه وحرصه على مستقبله وازدهاره .

 

وكل يدعي وصلاً ليلى وليلى لا تقر لهم بذاك

 

وظهرت في بداية الأزمة بوادر انفراج لها من خلال هيئة العلماء وجمعية العلماء، حيث حاولت المجموعتان رأب الصدع، والخروج بنقاط تنهي الخلاف، وتعيد الأمور إلى مسارها الصحيح، لكن حال دون ذلك أمور كثيرة أدت في النهاية إلى الثبات على المواقف، وعدم الانصياع إلى الحق والصلح الذي قال الله تعالى في شأنه : ( والصلح خير) وكان لأهل العلم في هذه الأحداث مواقف متباينة، كل ينظر إليها من زاوية معينة، سجلت هذه المواقف في الندوات وفي وسائل الإعلام، وانضم بعض الوسطاء والمتوقفون في بداية الأحداث إلى صف المعارضة، أو بالأحرى انضموا إلى الثورة المطالبة برحيل الرئيس، بينما آثر بعض أهل العلم الحياد بين الفريقين، ومحاولة التأثير عليهما لتقديم التنازلات والرضا بالصلح، وسجل آخرون معارضتهم كلياً لهذه الثورة لأمور عدة .

 

والذي يهمنا من هذا التوصيف لهذه الظاهرة هو تلمس حكم الله تعالى في هذه الأحداث، والخروج بحل مناسب مقبول، وقبل أن نستعرض مبررات وحجج الفرقاء أحب أن أنبه إلى بعض القواعد التي تعين على تلمس الحكم الشرعي لهذه النازلة، وهي على النحو التالي :

 

1- حرمة انتهاك الدماء والأموال والأعراض، وعدم المساس بشيء منها تحت أي مبرر .

2- يجب رد كل ما يتنازع فيه إلى الله والرسول، قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) .

3- بناء الأحكام يتم على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح .

4- النظر في التعارض بين المصالح والمفاسد وتقديرها، والتمييز بين أعلى المفسدتين وأخفها، وبين أعلى المصلحتين وأقلها .

5- يجب أن تكون المصلحة ظاهرة، أو يغلب على الظن وقوعها، ومثل ذلك المفسدة، ولا يجوز الحكم من خلال مصالح أو مفاسد متوهمة أو متخيلة، أو لا يغلب على الظن وقوعها .

6- لا يجوز الخلط بين التحليل الصحفي والحكم الشرعي .

7- المنهج الديموقراطي الغربي لا يصلح أن يكون حكماً بين أهل الإسلام .

 

وقد استند المؤيدون للثورة والداعمون لها بالحجج التالية :

‌أ- أن هذه الثورة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

‌ب- أن أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند إمام جائر،كما في الحديث الذي أخرجه النسائي وأحمد وهو حديث صحيح، وهذه الثورة من هذا القبيل، وجور الحاكم في نظرهم ظاهر وبيِّن .

‌ج- أن الحاكم لم يوف بالعقد الذي جرى بينه وبين الشعب في الانتخابات .

‌د- أن الفساد المالي والإداري في البلاد بلغ حداً لا يطاق .

‌ه- معاناة الناس من الظلم والفقر والجهل بدرجات متفاوتة .

هذه أبرز الحجج التي يتداولها المؤيدون والمساندون للثورة من أهل العلم والفكر .

وبموجب هذه الأدلة وما في معناها رأوا أن الثورة حتم لازم، لما يترتب علي ذلك من انتقال السلطة بطريقة ديموقراطية من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وسيتم بعدها بناء المؤسسات الحكومية بناء وطنياً، يقوم على الكفاءة والأمانة، وستكفل الحكومة الحريات العامة والخاصة، في نسيج ديموقراطي حديث، يجعل الجميع من حيث الواجبات والحقوق متساوياً، وسيتم القضاء على الفساد المالي والإداري، هذا وما في معناه من وعود وتطلعات إلى مستقبل أفضل .

هذه أبرز الوجوه والحجج لهذا الفريق.

 

وأما المخالفون لهذا التوجه فيستندون إلى الحجج التالية:

 

‌أ- أن هذا خروج على الحاكم المسلم , وقد دلت النصوص الشرعية الكثيرة على حرمة ذلك، إلا إن صدر منه كفر بواح , كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الصحيحين : «بايعنا رسول الله ج على السمع والطاعة في العسر واليسر , والمنشط والمكره , وعلى أثرة علينا , وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان , وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم», وما في معنى ذلك من نصوص شرعية في الكتاب والسنة من مثل قوله تعالى :(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) والكفر البواح هو الظاهر الغالب , قالوا : والخروج يكون بالقول وبالفعل.

‌ب- أن الخروج لا يجوز على الحاكم المسلم، ولو كان بغير السلاح كما في حديث عبادة السابق « وأن لا ننازع الأمر أهله » والمطالبة بخلعه منازعة له في سلطانه , وفي الحديث « من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له , ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » أخرجه مسلم , قالوا: فخلع الطاعة حاصل ولو لم يقترن بقتال، فكيف والقتال واقع في أكثر من حادثة .

‌ج- أن هذا هو منهج أهل السنة والجماعة الذين نصوا على عدم جواز الخروج على الحكام الظلمة ولو جاروا , وخالفهم في ذلك بعض المبتدعة من المعتزلة والخوارج، فأجازوا الخروج على الحاكم المسلم الجائر , وقولهم هذا باطل مناف للنصوص الشرعية , ولفعل السلف الصالح , ولما في ذلك من المفاسد العظيمة.

‌د- أن في هذه الثورة مفاسد كثيرة منها: إراقة الدماء، وقد حصل , والتضييق على الناس في حياتهم ومعاشهم، فارتفعت الأسعار، وتضرر الناس من الإضرابات , وتضايق أصحاب المحلات التجارية والمباني الواقعة في ساحات الاعتصامات , وتعطلت بعض الخدمات العامة نتيجة للإضرابات والتقطعات من بعض القبائل, وهذا ينذر بشر أعظم إذا ما استمر الوضع على حاله.

‌ه- في هذه الثورة المجازفة باحتمال تفويت مصالح كثيرة، كسبها أهل الخير والدعاة إلى الله , فالحريات مكفولة , وازدهرت الدعوة إلى الله تعالى في طول البلاد وعرضها، ولم يصل الحال في ظل عهد الرئيس الحالي إلى التضييق والتعسف الجاري في كثير من البلدان، والجمعيات الخيرية بشتى تخصصاتها عمت البلاد وعم خيرها في صورة يندر وجود أمثالها في العالم العربي والإسلامي دون تحجيم أو تضييق أو مصادرة .

‌و- يغلب على الظن ترتب مفاسد كثيرة من جراء هذه الثورة للمانعة القوية من الرئيس والحكومة، وبوادر ذلك ظاهرة، وقد ينفلت الوضع بين عشية وضحاها إلى صدام دموي كبير، لا سيما وأن قطاعاً من الجيش يقف في صف الثورة، وهناك نذر واضحة لتمزق البلاد واقتطاع أجزاء منها، فلربما حقق الحوثيون حلمهم بقيام دولة رافضية في صعدة وما جاورها، لتكون كالخاصرة في جسم الأمة، وقد ينفصل الجنوب عن الشمال، وسيكون لحركة القاعدة صولات وجولات في عموم البلاد، والشواهد المادية تدل دلالة لا لبس فيها أن هذه الكوارث يغلب على الظن وقوعها .

‌ز- أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأي مفسدة أعظم من المفاسد السابقة الذكر، وأما المصالح التي يستند إليها المخالفون فهي مجرد وعود من أقوام جربوا في الحكم، وعرف الناس بطشهم وظلمهم، أو عدم قدرتهم على التغيير مع حسن نيتهم .

وفندوا ما استدل به الأولون من أن الثورة تندرج تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن هذا كلام لا أساس له من الصحة؛ لأن الأمر بالمعروف يجب أن يكون بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يكون بأمر أنكر منه، وأي منكر أعظم مما هو كائن، وهذه مقولة أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، بل إن المعتزلة يعدون ذلك أصلاً من أصولهم الاعتقادية الخمسة .

وأما دعوى أن الحاكم أخل بالعقد فجاز نقضه فكلام لا أساس له من الشرع؛ لأنه وإن سمي عقداً في تعريف الفقهاء فإنه لا يجوز نقضه إلا بكفر بواح لنا من الله فيه برهان كما مرّ معنا في الحديث المتفق عليه، ويلزم من هذه المقولة أن أي ظلم خاص أو عام صدر من الحاكم مجوز للخروج عليه بحجة أنه لم يف بالعقد، وفي هذا من الفساد ما يوجب طرحه، والمطالبة بتنحي الحاكم وسبه وشتمه ومحاصرة المؤسسات العامة ليست من قبيل كلمة الحق عند سلطان جائر، وأما الفساد المالي والإداري فهو والله قاصمة الظهر، وسبب جوهري في كل ما يحدث من فتن ومحن، وطريق القضاء عليه ليس بشيء أفسد منه، بل هناك وسائل كثيرة يمكن استخدامها للقضاء على هذه الظاهرة أو التقليل منها دون ركوب هذه الفوضى العارمة، وإن كانت بحسن نية، فإن حسن النية غير كاف للحكم على القضايا، وهناك من الثوار المتحمسين وهم من طلاب العلم يرون أن هذا الحاكم لم تنعقد له الولاية أصلاً لأنه ليس حاكماً شرعياً، وبناءً عليه فإن على الأمة جمعاء أن تغير هذا المنكر، وهذا حماس غير مقبول وغير منضبط، ويلزم قائله لوازم عدة منها : أن معظم أهل الحل والعقد يدينون له بالولاء وبايعوه، وشعائر الإسلام ظاهرة، وإن كان القصور ظاهر في تحكيم الشريعة وعلوها، لكنها غير معطلة، فالجامعات والمؤسسات التعليمية تدرس الأحكام الشرعية، والمساجد بيوت الله عامرة بالمصلين وبالدروس العلمية، والمحاكم الشرعية قائمة في الأساس على حكم الشريعة، وإن حصلت تجاوزات لكنها ليست من قبيل الدساتير الكفرية الصريحة التي تحتكم إلى القوانين المدنية، وإن كان القصور والظلم واقع، لكنه ليس موجباً للكفر البواح، وأما التصرفات الفردية غير المنهجية فليست قاضية بالحكم على الدولة بأكملها .

ثم إن ما يطالب به الثوار والمعارضة لا يعدو أن يكون تطلعًا إلى حكومة مدنية إطارها العام الديموقراطية الغربية من جنس الحكومة الحالية مع وعود بالقضاء على الفساد المالي والإداري , وبناء مجتمع مؤسساتي , والانتقال السلس للسلطة، فيصح على هذا أن يتسلمها الماركسي والحوثي والإسلامي...

فهل مثل هذا التصور كاف في نقض العهود, والمجازفة بتجاوز كل المصالح, وارتكاب ما يمكن من مفاسد في سبيل إنشاء مثل هذه الدولة, وأما التوريث والتمديد فليست قضية في حد ذاتها لأن الحكم بشريعة الله وإقامة العدل والقسط بين الناس ومراعاة مصالحهم والسعي في ازدهار البلاد وتقدمها هو الأساس سواء أكان بتوريث وتمديد أم بغيرهما , وهي قضية حسمت قبل بداية الأحداث بوعود علنية من الرئيس وكان بالإمكان أخذ الضمانات منه بطريقة مناسبة, وأما رأي الواقفين في هذه الأحداث فمبني على أن هذا الموقف مؤهل للوساطة بين الفريقين عند الحاجة، أو لأن المصالح والمفاسد متساوية يصعب الجزم برجحان جانب منها, هذا ما يمكن الاعتذار به عنهم, ولا يلزم أن يدلي كل طالب علم بدلوه في كل المسائل حتى يتبين له الحق بدليله, وفي هذا مندوحة له , ولا يصح نقده والحال كذلك.

وبناءً على ما تقدم وما يدار من نقاش وحوار قريب من ذلك، فإن العاقل يتبين له الرشد من الغي من خلال النظر الجاد بعين البصيرة والتجرد من الهوى والعصبية والحزبية, ومن طلب الحق وجده( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) وللخروج من هذه المآزق الضيقة التي أحرجت عقلاء الأمة والحريصين على امن البلاد واستقراره فإن الفرصة لا زالت سانحة للصلح بين المتخاصمين، والخروج بحل يرضي الطرفين، إن أصر كل طرف على موقفه، وإلا فإن تنازل أحد الفريقين عن مطالبه أو بعضها فإنه مما سيحمد له، وسيعد ذلك صلحاً لرأب الصدع وطريقاً إلى الجماعة إن حسن القصد وصدقت النوايا، قال تعالى :( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) ولن تعدم الأمة من أناس مخلصين مؤهلين للفصل في هذه القضية، وهو الخروج من هذه الأزمة والفتن بإذن الله تعالى، وليكن ذلك وفق الضوابط التالية :

1- اختيار عشر شخصيات علمية وفكرية مشهود لها بالفضل والنزاهة، والبعد عن العصبيات والتحزب، وتحظى برضا الطرفين .

2- يتعهد كل فريق علانية بالانصياع لما تتوصل إليه هذه اللجنة، وأن حكمها نهائي غير قابل للتعديل والمساومة.

3- اللجنة مخولة باستشارة من ترى استشارته ضرورية ومفيدة .

4- تلتزم اللجنة التزاماً قاطعاً بعدم تسريب ما يدار من نقاش وحوار أثناء النظر في القضية .

5- لا يحق لأي طرف من المتخاصمين التأثير على اللجنة ترغيباً أو ترهيباً .

6- يكلف فريق أمني بحراسة اللجنة بتجرد كامل .

7- يصدر حكم اللجنة من مقر عملها عبر وسائل الإعلام دون تنسيق مع أحد .

8- يجب أن تكون القرارات صريحة وواضحة .

9- تشرف اللجنة على تنفيذ الاتفاقية إشرافاً كاملاً، وهي المرجع الوحيد في الفصل بين ما قد يكون محل خلاف.

10- اللجنة هي الجهة الوحيدة التي يحق لها تقييم الاتفاقية، ومدى التزام الأطراف ببنودها، والإعلان للشعب عن نجاحها أو إخفاقها مع بيان المتسبب في ذلك .

هذه رؤيتي وهذا جهدي، فإن كان صواباً فمن الله وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان، وليعذرني من لم يتفق معي في طريقة عرضي وما توصلت إليه فإنما الحق أردت لا غيره .

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .

 

m.algabban@gmail.com

عدد القراءات : 3506
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات