احدث الاخبار

أبا عمَّار.... سقى الله مثواك !

أبا عمَّار.... سقى الله مثواك !
اخبار السعيدة - بقلم - عبدالحليم أبو حجّاج         التاريخ : 11-11-2010

أبا عمَّار..لماذا تعجلت الرحيل ؟ و لماذا فارقتنا قبل أن تكشف عن نفسك الغطاء , و تفضح ما استخفى علينا من أمور مبهمات . أمَّا أنا فما أحب أن نفترق و أنا أكتم في صدري بعض الأمر, أو أستر من دونك شيئا من السر , أو أخفي عنك كبائر الجنرالات و مجلس اللوردات الفلسطيني بعد غيابك . و لكني في ليلة ذكرى رحيلك السادسة أسترجع من ذاكرة التاريخ كيف كنت.... و كيف عشت .

نعم ! لقد عشتَ يا أبا عمار بين ظهرانينا قائدا جريئا , و أباً عطوفاً , و أخاً كريماً لإخوة كرماء ، فكنتَ تفرح لنا و تغضب فينا , و تألم حين نألم , و تحزن حين نحزن . و كنت أميناً على قضية شعب اغتُصِبت منه حقوقه , وضيَّعَتها قوة العدوان , و انتُهكت حرماته السياسية والإنسانية , و كنتَ يا أبا عمار حكيماً في إدارة الصراع السياسي كما كنت في حلبة النزال العسكري , و كنتَ رائعاً في فن العمل الفدائي و حصائده ، فبهرتَ عـيون الأعداء قبل الأصدقاء , فكانت معركة الكرامة التي أعادت الثقة بالنفس و أعادت الكرامة للعرب أجمعين وأعادت البسمة الوضيئة على وجه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي وصف العمل الـفــدائي بأنه أنبل ظاهرة أضاءت في سماء العرب المعتمة . و تصاعد العمل الفدائي بصموده وضربـا ته الموجعة , فالتفتَ العالم كله لهذه الثورة التحريرية و التفَّ حولها ثوار العالم يساندونها ويدعمونها و يؤيدونها ، و تغنى الشعراء و الأدباء بهذا الفدائي الجسور .

وتوليتَ يا أبا عمار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فأصبحتَ رئيساً لحركة فتح و رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، واشتدت سطوة العمل الفدائي الجريء ، واشتدت ضربات العاصفة ، و استطعتَ أن ترفع علم فلسطين في المحافل الدولية و استطعتَ أن تُسمع مَن به صمم مِن الإنسانية الغافلة اللاهية : أن شعب فلسطين مازال على قيد الحياة لم يمت و لن يموت , و أن له حقوقاً تاريخية أغفلتها دول العالم بعد أن كفلتها الأمم المتحدة في قراراتها الدولية التي اعترفت بحق الفلسطينين بالعودة إلى أراضهم و ديارهم , و نصت على إقامة دولة عربية فلسطينية مستقلة . و دخلت يا أبا عمار الأمم المتحدة و تحدثت إلى أعضاء جمعيتها العامة 1974 و كنت شامخاً شموخ شجرة الزيتون و شجرة التوت و النخلة الباسقة في حواكير قريتي الفلسطينية . وطفتَ في الأرض تجوب بلاد الله داعياً إلى السلام و مبشراً و نذيراً....و كان يوم إعلان الاستقلال في الجزائر 1988 الذي حصد اعترافاً دولياً كبيراً بتعداد 130 دولة تقريباً .

وما كان ذلك إلا بفضل كفاحك يا أبا عمار و بفضل جهاد النواة الأولى من رجالات فتح العاصفة التي شقت طريقها الملتهب بالنار والبارود لا يثنيها شيء عن عزمها في تحقيق النصر أو الشهادة في سبيل الله والوطن . و كنتَ يا أبا عمار في المقدمة الفدائي الأول , و كنتَ أنت القبطان و كنتَ أنت القائد . و طالت رحلة العذاب ، و انتهت بمحطة يستريح فيها المحارب في غزة و الضفة و ذلك بعد اتفاق أوسلو . و كان يوماً مشهوداً يوم 171994 حين شاهدناك تلِج بوابة رفح وتسجـد لله حمداً و شكراً , و قد اطمأنت بك الأرض الفلسطينية بعد اضطرابها و قلقها ومعـانـاتها . ولم نكن لرؤيانا مصدقين من شدة الدهشة و الانبهار من المشهد , ولم يكتمل حلمنا بوجودك بيننا , ولم يكتمل حلمك بإقامة دولتنا المستقلة و عاصمتها القدس الشريف , و لم تكتمل عيناك برؤية شبل فلسطيني , ولا زهرة فلسطينية يرفعان علم فلسطين فوق أسوار القـدس وكنائس القدس . و لسنا ندري ما الذي أغضبك منا و لا ندري من ( برطل عزرائيل ) فاختطف روحك وأنت بيننا ، ورحلتَ عنا . فلماذا تعجلتَ الرحيل أيها القائد الحبيب ... أيها الفـاتـح العظـيم ، و لمن تركتَ فلسطين و قضية فلسطين ؟ و لمن أوكلتَ قيادة شعب فلسطين ؟ ومَن أولئك الذين أودعـت الأمـانة لديهم ؟ فهل أحسنتَ اختيارهم ؟ وهل صانوها أم خانوها ؟ . نحن نعلم أن لديك حساً مرهفاً تختزل به مسافات الزمن , و تستقرئ المستقبل عما ستتمخض عنه الأيام القادمة ، فليتك يا أبا عمار تشق القبر و تنظر إلى حالنا بعدك .

الله الله ما أعجب حياتنا !....لقد تغيرنا من بعدك ولكن بلا إصلاح ، و تولى أمرنا حاكماً لم يقرَّ يوماً في منتداه لدراسة مشكلة و الاجتهاد في حلها , و لم يفرغ يوماً لمواجهة حدث طارئ أو خَطْب ملم لرأب الصدع قبل أن يتصدع الجسد و تستفحل الخصومة و تعمق الجراحات . لم ينهض يوماً لمقاومة الشر و الفساد الذي استشرى في البلاد ، ولم يأمر بالقبض على محدثي الشغب و الفلتان الأمني و محاربة المهربين و الحرامية و المتاجرين بالقضية الوطنية و التجاوزات الحزبية التي أحدثت في البلاد فوضى السلاح ، ولم يتدخل بالحزم و الشدة و الصرامة لمقابلة القوة بالقوة و مقابلة العنف بالعنف وتطويق الأخطار . و لم يجرؤ هذا الحاكم على إجراء عملية جراحية صغرى لبتر العضو المصاب حفاظاً على سائر الجسد ، لتبرأ غزة من أدرانها وأورامها الخبيثة .

أتدري يا أبا عمار لماذا لم يفعل ؟ لأن خليفتك قلبه رقيق , عطوف , يخاف من صورة البندقية , و يخشى من حمل مسدس حتى وإن كان لعبة بين أيدي الأطفال في العيد . ولأنه مشغول على طول بالسفر تاركاً وراءه البلاد – و خاصة غزة – وهي تموج بالأحداث العنيفة ولم يكن يبالي . فكان الزلزال الأفظع حيث الانقلاب المدمر الذي صاحبه موت العشرات و جرح المئات و إصابة الدولة الوليدة بالسكتة القلبية .

آه يا أبا عمار لو أنك تشق القبر و تنظر إلى أحوالنا لتعرف كم نحن بؤساء تعساء . لقد كنتَ تحلم بإقامة دولة واحدة ، وها نحن أقمنا دولتين بل إمارتين بسلطانين , و لنا حكومتان لكل مؤسسة خدمية وزارتان و لنا جوازان للسفر أحدهما بصورة شخصية خلفيتها حمراء و الأخرى زرقاء ، و يرتفع على سواري بلادنا اثنا عشر أعلاماً بعدد الأسباط الفلسطينية ، وأصبحنا مسخرة للعرب و العجم , و أمسينا أضحوكة الأقارب و الأباعد . و ها هو الحاكم الأكبر في رام الله و حوله الكهنة و المشيرون الذين لا يشيرون عليه إلا بما يغرقه و يغرقنا معه في أوحال الانقسام و ألعوبة المفاوضات ، وأضحت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير مقهى للرهابنة وصالون لتشريف العجزة .

وها نحن يا أبا عمار في قطاع غزة نعيش غرقى في بحر الظلم والظلمات نأكل و نشرب مما يأتينا عبر الأنفاق , و تأتينا قوافل الزائرين تحت شعار كسر الحصار للفرجة و مشاهدة حديقة الحيوانات بغزة , حاملين معهم بعض الهدايا من الشيبس و الشوكولاتة و الحلاوة و الفستـق , و عدداً من أشرطة الأسبرين و الأقراص المهدئة ، ثم يجولون في البلاد , و يجوسون خلال الديار يلتقطون الصور التذكارية لعرضها على أفراد أسرهم و أصدقائهم , و نبقى نحن غارقين في بحر الظلام و تحت الركام استعداداً لاستقبال فوج جديد من الزائرين المغامرين .

لقد ضقنا ذرعا بحياتنا و قد ضاقت علينا حياتنا . هذه الحياة البغيضة التي لا سماحة فيها ولا يسر , و لا راحة فيها و لا سكينة , و لا سعة فيها و لا أمان....حياة تعيسة بئيسة .

أبا عمار، أنا لا أستطيع أن أُكْرهك على الخروج من قبرك إنْ آثرتَ البقاء فيه , و لا على الإصغاء لنجواي إن أنت أشحتَ وجهك عني , و لكن عليك أن تعلم يا سيدي أن رحيلك جلب لنا الشقاء و زاد في تعذيبنا وما أراك إلا مشفقاً علينا مثلما نشفق عليك حين تتراءى لنا ذكراك . وما أراك إلا تتألم و يعتصر قلبك هذا الألم لما آل إليه حالنا في قطاع غزة تماماً كما نحس بالأوجاع تنهش نفوسنا و تقضم حياتنا فيبتلعنا الضياع . و لكن الشيء الذي نأسف له بعدك أننا رجعنا إلى الوراء بمقدار خمسين سنة نبحث عن بابور الكاز و لمبة نمرة 2 , و نجمع الحطب للخبيز على الصاج ، و ننام بعد صلاة العشاء مباشرة حيث يلفنا السواد و نتوسد الوجيعة و نحترق بالآهات و الدموع مقهورين ، يجمعنا باستيل كبير لا خروج منه , فقد سُـدَّتْ كل البوابات و المعابر البرية و الموانئ البحرية و الجوية , و لا تُـفتح إلا للوزراء من الحكومتين من ذوي الدم الأصفر و الدم الأخضر . ولو قدّر لك أن تسمع يا سيدي فإنك لا تسمع إلا نَوح باكٍ وأنين شاكٍ و توجع جريح ، ولا تسمع إلا صليل الأصفاد في أيدينا , و طرطقة السلاسل في سـيقـاننا . وحاكمنا استغفر الله- بل سلطاننا لا يبالي بأحزاننا ؛ فهو رجل ناعم أملس...رجل ديمقراطي...رجل حضاري...رجل لا يؤمن بالعنف بل بالسلام المبطن بالاستسلام و الانبطاح .

فلولا الحياء من الله تعالى لطلبتُ منك يا أبا عمار أن تغادر مثواك و تعود إلينا لعل في عودتك اندحار لحكامنا الذين انتهت صلاحيتهم بانتهاء وحدة شعبنا بالانقسام الذي أعقب الانقلاب والحسم العسكري . ولعل في عودتك تعود فتح الثورة , فتح العاصفة , فتح التاريخ التليد والماضي المجيد ، فتح انطلاقة الرصاصة الأولى....فهل تنطلق فتح برصاصة ثانية يطلقها شباب أكرمون لا يكونون أمثال العجائز الخائرين الخائبين .

سيدي الرئيس عرفات : يرحمك الله , و سقى الله مثواك بماء من السماء طاهراً مطهراً . لقد تركتنا و رحلتَ عنا و نحن نعلم أننا في بؤرة ذاكرتك لا تسلانا و لا تنسانا , و إنك يا سيدي مازلتَ تحمل همومنا و أحلامنا ، و نحن كذلك يا سيدي لن ننساك و لن نسلاك ما حيينا ، فأنت في بؤرة الوجدان و الذاكرة و في سويداء القلب....

يرحمك الله يا أبا عمار في الذكرى السادسة ليوم رحيلك , و السلام عليك و على رفاقك من الشهداء الشاهدين و أخص بالتحديد الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله الذي مات و في نفسه أمنية غالية هي تحرير فلسطين .

عدد القراءات : 2563
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات