احدث الاخبار

الفساد

الفساد
اخبار السعيدة - بقلم - محمد علي الحلبي         التاريخ : 24-04-2010

الفساد ظاهرة منافية للطبيعة الإنسانية السليمة  إن حلّ في مجتمع دمّره المستفيدون منه،ودمّروا  كل أسسه وأعمدته الأخلاقية،وينسحب تدميرهم ليشمل كل الظواهر الحياتية من اقتصادية ومعاشية،وحتى الجوانب الفكرية منها فهم في سعيّ دائم لتحريفها وتخريبها ضماناً لاستمرار استغلالهم وبقاء مكاسبهم على حساب الآخرين ،وقدامى العرب أودعوا حكمتهم في أمثالهم إذ قالوا:"من سرّه الفساد ساده المعاد"من كتاب(المستطرف من كل مستظرف)للأبشهي.

ولخطورة هذا التشوه الخُلقي وابتعاده عن القيم ولتواجده ماضيا وحاضرا على المستويين العالمي والعربي رأينا أن نوزع البحث على العناوين التالية:

1-      الفساد عبر الماضي والمعارضة الكلية له من خلال الثقافة العربية، وجذورها الدينية.

2-      مظاهر الفساد الحالية وأسبابه، وتركزه في الفساد السياسي، والنتائج المترتبة عنه.

3-      الحلول لمحاربته والتخفيف منه إن لم يكن إيقافه ومنعه.

والفساد تنوعت أشكاله عبر مراحل التاريخ فكان قتل النفس بغير حق،والاعتداء على كرامات الآخرين وحرماتهم،وتدنيس مقدساتهم،وهتك أعراضهم،ونهب وسلب أموالهم،وحتى أدنى مقومات حياتهم.

كان صراعا دائما بين القوة الضالة، وبين الحق الجلي الواضح المنير المنتصر آخراً وأبداً، فلولا انتصاره وبقاؤه لزالت الحياة وانتهت، ودخل الوجود في دائرة العدم.

ومن استقراء للماضي وحتى الحاضر، وتنبؤ للمستقبل سنجد أن صفتين ملازمتين للفساد:قِدمه قِدم الخليقة، وشموليته لجميع المكونات الاجتماعية.

البدء في الحديث حول الفساد كان بين الله جلّت قدرته والملائكة في سورة البقرة،الآية30"إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لاتعلمون"،ورغم تعدد التفاسير للآية الكريمة إلا أن استخلاف الله للإنسان على الأرض فيه إجماع،والخليفة يجب أن يتمثل في حياته جزءاً من كمالات الله الذي استخلفه،ويؤمن بها وينفذ تعاليمه،وأن يكون المطيع الأمين لها في كل لحظات حياته...بذلك يحسن معاده إلى أرضه وعلى أرضه،جاء ذلك في الآية الكريمة في مَعرض وعد للرسول عليه الصلاة والسلام"إن الذي فرض عليك الكتاب لرادك إلى معاد"سورة القصص،الآية85،أي في عودته لمكة المكرمة بعد هجرته منها للمدينة المنورة في بدايات الدعوة،وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد عبّر مراراً عن حنينه وشوقه لجذوره وأرضه،كما أن بعض المفسرين اعتبروا المعاد هو الجنة.

الثقافة العربية:

حَرِصت الثقافة العربية ببعديها الديني والمعرفي على القيم والضوابط الأخلاقية،وضرورة التمسك بها جميعها امتثالا ًلأوامر الله،وتحقيقاً لسعادة الإنسان،ففي اللغة العربية تجلت العبقرية العربية المُعبّرة في نحت الكلمات واشتقاقاتها....مُظهرة ترابط المعنى والصور المرادفة له فعن الفساد قيل إنه الكرج:وهو اسم فارسي مُعرّب،ويقال:كرج الخبز أي فسد وعَلته خضرة،وقيل الهوشة حيث تعني الفتنة والهيج والاضطراب،والمهاوش كل مالٍ أصيب من غير حلّه كالغصب والسرقة،وفي الحديث الشريف"من أصاب مالا ًمن مهاوش أذهبه الله في نهابر"والنهابر:المهالك....إضافة إلى كلمة  الذرب،ومن فسد خلقه نُعت بذرب الخُلق،وفيهم أذراب أي مفاسد، كما وأن كلمة الغبر تشير إلى صورتين مقيتتين:الحقد والفساد،كذلك العبث حيث يعني الخلط في الأمور وإفسادها،وكل ما لا فائدة منه يُعد عبثاً أي فاسداً،وجاء في معجم(العين)الخبْل بتسكين الباء:الفساد،ويقال أيضاً الخبْال،ومنها خبله تخبيلا ًإذا فسد عقله،كما وأن كلمة الدغل بالتحريك تعني الفساد،ومنه أدغل في الأمر أي أدخل فيه ما يفسده ويخالفه،وقيل رجل مدغل:مخاب مفسد،ورجل خبّ:خبيث...خداع...ماكر،والخبّ:الفساد،وفي الحديث الشريف"المؤمن غِرّ كريم ، والكافر خبّ لئيم" ويقول علي كرم الله وجهه:"ذاك زمان العثاعث"أي الشدائد:من العثعثة والإفساد،والعثة:ذويئبة تلحس الثياب والصوف،وتحدث خرقاً فيها.

والشعراء العرب كان لهم نصيب في تعرية الفساد،والكثيرون قالوا أبيات من الشعر محذرة ومنبهة،وداعية للإصلاح،وقبل الإسلام وفي زمن الجاهلية قال المتلمس الضبعي من أهل البحرين توفي عام43ق.هــ:

                        وإصلاح القليل يزيد فيه                   ولا يبقى الكثير مع الفساد

وفي ذات الفترة كان حاتم الطائي المشهود له بالكرم ، وكان يُضرب المثل به، وهو من أهل نجد توفي عام46ق.هــ:

                        جاورتهم زمن الفساد فنعم     الحيّ في العوصاء واليسر

والعوصاء:الشدة.

والمؤلفات القديمة أبدعت في تناولها لجوانب الحياة،وأسس بناء السعادة والعزة الوطنية فيها،وتجنب العثرات التي تنغصها المؤدية إلى إضعاف الذات والوطن....ففي كتاب (سبات نامه) لحسين الطوسي يقول في مقدمته:"طلب منا أمير المؤمنين أن يقلب كل منا صفحات فكره ويتأمل أن يجد ثمة شيء غير محمود على عهدنا،أو أنه جرى على غير شرطه،أو غام عن أعيننا،ولأن الله وهبنا الدنيا ومُلكها،وأسبغ علينا نعمة كاملة،وقهر أعداءنا ينبغي ألا يظل شيء بعد الآن في مملكتنا ناقصاً،أو مزلزلا ً،أو أن الأمور فيها تسير بخلاف الشرع وأوامر الله تعالى".

ومن هذه الضوابط، وهذا المنطلق بشكل عام يقول:"إما أن المَلك يعلم بأمر الفساد والسرقة، والنهب المتفشي في المملكة، وإما أنه لا يعلم...فإن يكن على علم به ولايمنعه،أو يقف في وجهه فلأنه ظالم،وعن الظلم راضٍ،وإلا فهو عاقل قليل الدراية،وكلا الأمرين غير محمودين،ولابد من صاحب البريد...لقد كان للملوك في كل الأحقاب في الجاهلية والإسلام أصحاب بريد في كل المدن،لم يكن يفوتهم العلم بما يحدث من خير وشر حتى إذا ما غصب شخص آخر دجاجة أو مخلاة تبن على خمسمائة فرسخ فإن الملك كان يعلمه،ويأمر بتأديبه ومعاقبته".

ويأتي الجرجاني في كتابه (التعريفات) ليقرر" أن النصح إخلاص العمل عن شوائب الفساد،كما وأن النصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح والنهي عما فيه الفساد".

وتتجلى روعة من روائع الخالق في آيات كتابه القرآن الكريم فقد وردت كلمة الفساد وجذورها  فيه 50مرّة ، ففي سورة البقرة،الآية27"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه،ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل،ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون".

وفي سورة هود،الآية85"ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم،ولا تعثوا في الأرض مفسدين".

وفي الحديث عن منافق خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الآية:"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل،والله لا يحب الفساد"سورة البقرة،الآية205،وتأتي أوامر الله الصريحة الواضحة في قوله:"ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها،وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين"سورة الأعراف،الآية56،وعن نشر بني إسرائيل للفساد تُبين الآية"4"من سورة الإسراء أن لهم علويّن يفسدون فيهما، وعلوهم الثاني ستكون فيه  نهايتهم،قال تعالى:"وقضينا إلى بين إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُن علواً كبيراً".

أما الآية الكريمة"77"من سورة القصص ففيها حكم إلهي نهائي على المفسدين:"إن الله لا يحب المفسدين"وبذلك يضمهم في عدم حبه للكافرين والظالمين، والمعتدين، والمستكبرين، والخائنين، والمسرفين.

وعلى العكس من كل ذلك فحُسن الآخرة حَددته الآية الكريمة:"تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين"،والرسول العربي صلى الله عليه وسلم يقول في نعت الحاكم المخطئ:"إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم".

ويبدع الشيخ العلامة الإمام أبو الفرج الجوزي في نقله لحوارية دارت بين الخليفة العباسي،وبين أحد رعاياه،وفي نقله لحرص ملك الصين على إنصاف المظلومين من شعبه فيقول في كتابه(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم):"عن الخليفة المنصور،وكان يمشي في شوارع بغداد فسمع رجلا ًيقول:اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع،فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه،ومن ثم خرج فجلس ناحية المسجد،ثم أرسل إليه فدعاه،فصلى ركعتين،واستلم الركن مع الرسول،فسلم عليه،فقال المنصور:ما هذا الذي سمعتك تقوله عن ظهور البغي في الأرض،وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟!.....فو الله حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني،فقال:يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور،وإلا احتججت فيك واقتصر على نفسي ففيها لي شغل شاغل،فقال:أنت آمن على نفسك،فقال:يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض لأنت،قال:ويحك كيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء بيدي،والحامض في قبضتي؟!....قال:وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟!....إن الله عزّ وجل استرعاك أمور المسلمين بأموالهم،فأغفلت أمورهم،واهتممت بجمع أموالهم،وبينك وبينهم حجاب من الآجر والجص وأبواباً من الحديد،وحجبت معهم السلاح ووزراء وأعواناً فجرة،إن نسيت لم يذكروك،وإن أحسنت لم يعينوك،وقويتهم على ظلم  , بالرجال والأموال والسلاح...أمرّت أن لا يدخل من الناس إلا فلان وفلان...لا تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، والجائع والعاري، ولا أحد إلا وله في المال حق...رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك،وآثرتهم على رعيتك،وأمرت أن لا يُحجبوا...تجبي المال ولا تقسمه،قالوا:هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه،وقد سُخر لنا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا،ولا يخرج لك عامل عن أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك،فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم،وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم من دونهم من الرعية بالثروة والقوة،وامتلأت الدنيا بغياً وفساداً،وصار هؤلاء شركاءك في سلطانك،وأنت غافل، و المتظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك،وإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك نهيت عن ذلك،ووقفت للناس رجلا ًينظر في مظالمهم،فإن جاء ذلك الرجل يبلغ سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك،وإن صرخ بين يديك ضُرب ضرباً ليكون نكالا ًلغيره،وأنت تنظر فلا تفكر ولا تعتبر فما بقاء الإسلام وأهله؟!....ولقد كان بنو أمية،وكانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رُفعت مظلمته،ولقد كان يأتي من أقصى الأرض حتى يبلغ سلطانهم فينادي:يا أهل الإسلام فيبتدرونه،فيرفعون مظالمهم إلى سلطانهم،فينصف لهم،وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين وبها ملك فقدِمتها مرّة وقد ذهب سمع ملكهم،فجعل يبكي،فقال له وزراؤه:ما لك تبكي لا بكت عيناك؟!...فقال:أما أني لست أبكي على المصيبة إذ نزلت بي،ولكن المظلوم يصرخ فلا أسمع صوته ،  وقال :أما إن كان ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب،نادوا في أن لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم،فكان يركب الفيل في طرفي النهار حتى يرى المظلوم فينصفه.

هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين، ورفعته على نفسه في ملكه، وأنت مؤمن بالله عزّ وجل وابن عمّ نبيه ألا يغلبك شح نفسك برأفتك بالمسلمين؟!.....فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث إن قلت:أجمعها لولدي فقد أراك الله عبراً في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وماله على الأرض،وما من مال له إلا دونه يد شحيحة تحويه فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل الصغير حتى تعظم رغبه إليه،ولست بالذي يعطي بل الله يعطي من يشاء مما يشاء،وإن قلت:أجمع المال لسلطاني فقد أراك الله عزّ وجل عِبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة ، وما أعدوا من السلاح والكراع....ما ضرك ما كنت فيه من ضعف أراد الله عزّ وجل ما أراد، وإن قلت:أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تُدرك إلا بالعمل الصالح للمؤمنين.

هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟!....قال : لا، قال:فكيف تصنع بالملك الذي ما أنت فيه من ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل لكن يعاقب من عصاه في العذاب الأليم، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك؟!....فيما إذا انتزَع منك مُلك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب، هل يفي عنك ما كنت فيه شيئاً؟!....فبكى المنصور بكاءً شديداً حتى ارتفع صوته،ثم قال:يا ليتني لم أخلق،ولم أك شيئاً،ثم كيف احتمالي فيما خولت ولم أر من الناس إلا خائناً؟!....قال:يا أمير المؤمنين عليك بالأعلام المرشدين، قال:ومن هم؟!...قال:العلماء، قال:قد فروا مني!!..قال:هربوا منك أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك،ولكن افتح الأبواب،وسهل الحجاب،وانتصر،وامنع الظلم،وخذ الشيء مما حلّ وطاب واقسمه بالعدل،وأنا ضامن لك عن من هرب أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك،فقال المنصور:اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل".

مظاهر الفساد الحالية:

حكاية الفساد قديمة قِدم البشرية فابنا آدم عليه السلام قتل أحدهما"قابيل"أخاه"هابيل"من أجل أن ينتزع منه زوجته المخصصة له،واستمرت الحياة،وتنوعت أنواع الفساد بحسب الظروف والأوضاع الاجتماعية المرافقة لها.

كان الطمع بالآخرين وثرواتهم الباعث الرئيسي للحروب،وضياع وفقدان ضوابط الغرائز غير السويّة بكل جوانبها الدافع لارتكاب الموبقات،وكذلك الحاجة في أيام الشدة غالباً ما دفعت بالبعض لهجر القيم الأخلاقية لفترات قَصُرت أم طالت،وفي الزمن المتأخر دفع تسارع النمو الإنتاجي وحاجاته المزدوجة للمواد الأولية ولأسواق تسو يقيه فكان الاستعمار  ,   يبدأ بالاحتلال والقتل،ويستمر في هتك كل المحرمات الإنسانية حفاظاً على مصالح المستعمرين،وما زالت البشرية تعيش هذه المرحلة من عبث النظام الرأسمالي بمصائر الشعوب...غاب عنها شكله القديم-الاحتلال المباشر-وتحول إلى احتلال غير مباشر،وإن كان ما زال أحياناً جامعاً للشكلين بنسبة يقل فيها الأول ويكثر فيها الثاني عبر شراء الضمائر والآراء،وقمع الحريات سيما لكلمات الحق فأصبحت دول ًعديدة محتلة مزرعة للفساد بكل طرزه  وأشكاله...فيها كل شيء يُغبن!!..والمعترض يلقى حتفه، وتموج الكلمات بين النحيب والصراخ حتى الأطفال ملائكة الرحمة فمن لم تصبه المنية تلحق به الأمراض لتفتك به.

إنه عالم اللامعقول طغت فيه القوى المادية المتجبرة الباحثة عن المزيد من الربح،وتراكم الثروات بغض النظر عن سبل الحصول عليها.

لقد مرّت مرحلة الحرب الباردة بين القوتين العظميين في أواخر القرن الماضي ابتكرتا  أثناءها فكرة الحروب البديلة بين شعوب موالية لهذه القوة وأخرى معادية لها،والغرض منها تمثل في الضغط للحصول على مكاسب لطرف أو لآخر دفعت الشعوب ثمناً لها دماء،ودموعا،وخرابا،ودمارا .

والسائد الآن خَلق الصراعات والحروب في أرجاء الكون تلبية لأوامر شركات السلاح الحريصة على بيع منتجاتها حفاظاً على بقائها،وجميع هذه الشركات في سباق مع الزمن لابتكار أسلحة أشد تدميراً لتسوقها كما تسوَق أحدث ابتكارات الأزياء.

الفساد السياسي:

وهو ما تفتقت عنه عبقريات الإفساد وهو آخر صرعاتها  والأصل والحامي لكل أنواع الفساد وتنوعاته،وقد عرّف بإساءة استخدام السلطة العامة لأهداف غير مشروعة وعادة ماتكون سريّة لتحقيق مكاسب شخصية أكثرها شيوعاً المحسوبية والرشوة والابتزاز،وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب،والفساد يُسهل النشاطات الإجرامية،ويُشجع تجارة المخدرات والممنوعات وغسيل الأموال،وارتكاب الأعمال غير الأخلاقية ،ومع مرور الزمن تتحول هذه الأعمال إلى ممارسات مشروعة في البلدان التي تكون جماعات المصالح قوية فيها " المرجع موسوعة ويكبيديا " ،والفساد السياسي رغم كل أضراره فإنه يعرقل التنمية الاقتصادية،بل يحدّ منها ويجمدها للإضافات والزيادات غير المعقولة على  الكلفة " الرشاوى "  فينعدم شرط المنافسة في عالم بات يُعرّف بالقرية الصغيرة...ذلك يدفع بالرساميل الوطنية للهروب إلى بلدان أخرى تكاد تخلو من الفساد،ومعهد ماساشوتيس الأمريكي قدّر أن30دولة إفريقية هربت منها رؤوس الأموال في الفترة الواقعة ما بين1970-1999بمبلغ قدره  187مليار دولار،وهو ما يفوق مديونيتها مجتمعة،وحجم الأموال التي تتعرض للنهب والاختلاس بسبب فساد الأنظمة تقدر بمبلغ1,6تريليون دولار سنوياً.

لقد بات من الواضح أن الأسباب المؤدية إلى هذا الخلل في المجتمعات عديدة منها:

1- الفقر وتدني المستويات المعيشية في بعض البلدان نتيجة التقصير في التنمية الاقتصادية.

2- غياب الديمقراطية وتركيز السلطات بأيد ظالمة مستبدة تمنع الحريات وتقمع، بل وتعتقل أصحاب كلمات الحق الدالة على مَواطن الخلل، والمطالبة بإصلاح الأمور.

3- تعقيدات العمليات الإدارية، فزيادة أعداد الموظفين عن القدر المحدد تُدخل إلى آلية العمل من لا ضرورة لهم فيزداد  "الروتين"  وتدخل المعاملات والطلبات في غياهب النظم الإدارية متيحة للبعض استغلال أوضاعهم الوظيفية لتقاضي الرشاوى.

4- انخفاض رواتب الموظفين.

ولخطورة هذه المأساة،وما تعنيه وتلحقه بالشعوب التي ابتليت بها أنشأ المجتمع الدولي"منظمة الشفافية الدولية"مقرها الدائم في برلين للمراقبة،والبحث عن أنواع الفساد وتشعباته،والإرشاد إليها،ومن ثم اقتراح الحلول الناجعة لمعالجتها والقضاء عليها،وفي كل عام تصدر تقريراً يصنف الدول الأقل فساداً في المراتب الأولى وصولا ًإلى الأكثر فساداً، الغارقة في لججه معتمدة على استجواب آلاف المواطنين في أكثر من بلد تصل أحياناً إلى70-80بلداً،وتتنوع الأسئلة حتى تقدم الصور الواضحة الجلية للواقع،والبارز في تقريرها أن الفساد عامّ في كل المعمورة لكن بدرجات متفاوتة،فعلامات التقدير له تتراوح بين الصفر مشيرة الى درجات الفساد للأدنى مرتبة،و10درجات للأنقى وأعلى درجات النزاهة،وعلامة النقاء لا وجود لها في أيامنا  ،  فتقرير المنظمة لعام2009استطلع رأي73,132شخصاً من69بلداً حيث أعرب بعضهم عن تخوفه من أن الرشوة تستخدم لصياغة السياسات لصالح الشركات،وبعض الأحزاب والخدمة المدنية بات يُعدّ بعضها من الأكثر فساداً،والرشاوى الصغيرة في ازدياد...النصيب الكبير منها لرجال الشرطة.

لقد نالت المرتبة الأولى في الشفافية كل من الدنمارك،نيوزيلندا،والسويد في قائمة ضمت180دولة،وحصلت كل واحدة على علامة9,3،تلتهم سنغافورة الحاصلة على درجة9,2،وجاءت أمريكا واليابان وبلجيكا في المرتبة18بعلامة قدرها7,3،واحتلت قطر المرتبة28بعلامة6,5،والإمارات الدرجة35لنيلها علامة5,9،ومن دول الاتحاد الأوروبي بلغاريا،اليونان،ورومانيا من أكثر الدول فساداً بعد حصولهم على درجة3,8،وجاء تسلسل الأقطار العربية... فقد كان نصيب عمان المركز42تلتها البحرين في المركز43،ثم الكويت في المركز66،بينما حلت السعودية في المرتبة84،وفي المركز الأخير الصومال لنيله درجة واحدة،وقبله العراق لنيله1,3،والمخيف والمرعب قول السيدة"هيفيت لابيل"رئيسة مجلس إدارة المنظمة عن شمول الفساد لقطاع الرعاية الصحية،إذ تقول:"كيف نحدد الثمن عندما تموت طفلة رضيعة أثناء إجراء عملية جراحية لها لأن حقنة الأدرينالين التي أعطيت لها لجعل قلبها يعود للخفقان كانت في الواقع مجرد ماء؟!!!..."

لقد تبدت لنا بعض مخاطر الفساد على كثرتها،والمناداة العالمية والعديد من الدراسات تبحث عن الحلول لهذه المعضلة،وفي رأينا أن المعالجة تبدأ من وجود مراكز أبحاث معنية بالتعمق بأسبابها،واقتراح الحلول فلكل مجتمع خصوصياته،وبالتالي لابد من مراعاة لها وتضمينها،واعتبارها ضمن المقترحات الناجعة وصولا ًإلى مجتمع خليّ ما أمكن من الفساد وتبعاته،وكذلك فإن بناء الاقتصاديات والعدالة النسبية في التوزيع تلغي الفقر وما يسببه،والأهم تعزيز الحرية والديمقراطيات،وإتاحة المجال للنقد وكشف العيوب لتلافيها،والتربية الخلقية في المدرسة والبيت العماد لخلق أجيال محصنة بالمبادئ القيمية،ولا ننس ما للإعلام من دور إيجابي في إطار هذه التربية وفي تعرية الأخطاء،والمشاركة في تشريع القوانين الناظمة للسلوكيات البشرية،ولابد من دعم القضاء النزيه وتعزيز دوره ليكون الحكم الفصل في الجرائم المرتكبة .

حلول عديدة،لكن الأصل أن تتوفر الإرادة السياسية أولا ًوقبل كل شيء،لكن إن أصاب الفساد رؤوس السلطة فلا أمل يُرجى إلا في حالة رفع شعار التغيير وبكل الوسائل تجنباً لكوارث أشد وأقسى.

عدد القراءات : 3442
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات