احدث الاخبار

الأديبة سناء الشعلان تنشد تراتيل الماء

الأديبة سناء الشعلان تنشد تراتيل الماء
اخبار السعيدة - كتب - طلعت سقيرق         التاريخ : 25-02-2011

كيف كان لها أن تتكئ بكل هذا السحر الأخاذ على شرفة الماء كي تفتح صنابير الوجد دفعة واحدة مصرة على تجريب وابتداع يصعب أن نجد له مثيلا في سيرة الأدب أو صورته ؟؟.. وظنـّي أنّ الكاتبة الأديبة الدكتورة سناء الشعلان تحمل خصوصية الأديبة المبتكرة باقتدار كونها تنتهج مدّ الخيوط وجعلها تكرّ إلى ما لا نهاية حين تمسك العنوان الرئيسي ثم تأخذ في بناء عوالم مفتوحة منه وفيه وعلى جوانبه .. ومن يقرأ مجموعتها القصصية " تراتيل الماء " الصادرة عن مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية في العام 2011، وهي المجموعة التاسعة قصصيا ، والمسبوقة بالكثير من الأعمال الإبداعية الأخرى، يلحظ هذا المدّ اللانهائيّ لتطريز القصّ بروح جديدة لم يألفها ابتداء من العنوان المفاجئ" تراتيل الماء " وليس انتهاء بكل البناء القصصي المعتمد على أحد عشر عنوانا رئيسيا ، يحوي كل عنوان منها عدة قصص ، وسرّ العنوان الرئيسيّ أنه حمـّال موضوع أو محور تغزل الكاتبة حوله قصها ولا تخرج عن مبناه ومعناه وغايته بحالة من التفكيك لجوانب الموضوع بما لا يدع جانبا غير مطروق .. فهناك جامع شامل هو العنوان الرئيسي ، وهناك تفريعات تصبّ في العنوان وترجع إليه ، دون أن تكون حاملة هويته في الموضوع أو الشكل أو هندسة وبناء القصة .. فالقصص في المجموعة خارجة تماما عن بنية تقليدية معتمدة ، ومتجهة نحو صياغة جديدة خاصة بالأديبة سناء الشعلان دون سواها ..

استلال جزء من الكل صعب ، والإحاطة بكل ما جاء ضمن المجموعة يحتاج إلى صفحات كثيرة قد لا يتحملها مقال أو دراسة .. لكن لا بدّ من محاورة ظلال هذه القصة أو تلك ، لابدّ من الوقوف على هذه الروح المبثوثة في ثنايا عمل جيد مشغول بإتقان وإبداع .. وإذا كانت تراتيل الماء هي الأولى صورة وقصا وورودا في المجموعة ، فقد نبين بعض الملامح حين نقف أولا عند تقديم من الدكتورة الشعلان يقول " الماء وحده هو الذي يحفظ سيرة الحقيقة ، ولذلك كتب عليه الرحيل أنـّى كان " ويعطينا الهامش لهذا القول جرعة من انفتاح النص على حيث " لا تحتاج قراءة الماء إلى خرائط " ما زلنا هنا في حيز العنوان الرئيسيّ وقبل الدخول لعالم أي قصة من قصص هذه الدائرة أو المحور " تراتيل الماء" وصعب أن نتحرك في عالم القصص بعيدا عن القول والهامش معا .. فكل قصة ترتبط بهذا الشكل أو ذاك بما سبق ومهد لنا معطيا إيانا شيئا من الزاد .. وإن نحن قرأنا القصة الأولى في هذه الدائرة أقصد " تراتيل الماء " فوجئنا بعنوان رئيسي ( ماء السماء ) وما يشبه التوصيف القائل ( تراتيله مقدسة ).. فليس هناك ابتعاد عن الماء وتراتيله إذن ، والقصّ في حكاية " ماء السماء " يضعنا أمام شخصية مرسومة بأنفاس العنوان بل مشاعره وهذا غريب مدهش فعلا لأنه يتناول ماء السماء مضمونا بكل نقائه الداخلي .. والشخصية لرجل لم يملك شيئا من حظ الشكل والصحة والعيش الهنيء ، وكأنه كان مطاردا بلعنة لا تبرح ، لكنه كان يملك أطيب قلب في الدنيا ، هذا القلب يشبه ماء السماء الطاهر ، لذلك فهو سعيد رغم كل شيء ، سعادته لا تحد ، وعطاؤه لا يحد أيضا ، وقد كان أول المتطوعين لصدّ المعتدين ، واستشهد بعد أن أدى دوره على أكمل وجه .. وأخذته الأرض إليها بحرارة حبها ، وشدة عشقها .. أليست هي التي تأخذ دائما ماء السماء بكل اشتهاء الأم وظمأ المشتاق ؟؟..

ومن ماء السماء كقصة أولى في الدائرة التي ذكرت إلى القصة الثانية " ماء الأرض " والذي ( تراتيله مكاء وتصدية ) وهي ذات مرجع قرآنيّ " وماكان صلاتهم عند البيت إلا مُكاء وتصدية " أي الصفير والتصفيق ، فكانت صلاتهم باطلة .. قدمتُ هذا التقديم لأصل إلى أهمية ما قامت به الأديبة سناء الشعلان في ختام قصتها هذه " ماء الأرض " .. فالربط بين ماء الأرض والمكاء والتصدية يحيلنا مباشرة إلى لا جدوى كل ما ستقوم به بطلة القصة .. لكن قفزة الإبداع كانت في قلب المعادلة كلها .. فالبطلة " صنيعة البغاء والإجرام ، ومن التحامهما كانت ".." احترفت إعدام أحلامها ، والرقص عارية على رفاتها غير آبهة إلا بزبائن جسدها المنهوك ".. " كان حلمها أطهر من أن يحمله جنان بغيّ ، كانت تحلم بأن تحجّ إلى بيت الله ، لتخلع هناك كل آثامها ".. وحققت الحلم حيث " هناك في حياض الكعبة المشرفة كانت تحجل ليل نهار " لكن ما الفائدة إن كنا أمام بوابة مغلقة وضعتها الكاتبة بذكرها "المكاء والتصدية"فهل يفيد صفير العصافير وتصفيق الرياح في أي شيء ؟؟.. وتأتينا د. الشعلان بهذا المخرج الرائع الذي يقلب المعادلة كلها حيث " ما عادت مخلوقة من ماء الأرض والمستنقعات بل من ماء السماء ".. فهي إذن متصالحة مع النتيجة التي وصلت إليها ، ومؤدى القصة واضح بين فيه ما فيه من إشارات ..

هناك عناوين كثيرة في هذا الباب وكلها محتاج إلى وقفات طويلة ، فالكاتبة الأديبة سناء الشعلان لا تترك الحبل على الغارب ، كل عنوان محتاج لوقفة ، وكل قصة محتاجة إلى التفات .. من هذه العناوين " ماء البحر " وملحقه أو توصيفه ( تراتيله سخط ) .. وهناك " ماء البحيرة " وتوصيفها ( تراتيله بكاء ) .. وهناك " ماء النهر " وتوصيفه ( تراتيله رقص ) .. وهناك "ماء الينبوع و( تراتيله حكايا ) و" ماء الشلال " الذي ( تراتيله عشق ) .. ثم الخاتمة الجامعة لكل هذه التراتيل في " ماؤهما " وتوصيفها ( تراتيله نسل ) .. في حكاية العلاقة الأبدية بين الذكر والأنثى ، والحاجة إلى النسل ، وفي الثنايا رغم مظهر بطلي القصة الدال على العلم والمعرفة  فإنّ المؤدى يقول بأنهما يفضلان إنجاب ذكر على أيّ أنثى !!..   

في محور " سيرة مولانا الماء ".. تفتتح الكاتبة بالقول " سيرة مولانا الماء هي سيرة الحياة ، بها أرخت الأزمان ، وكتبت الحقب ، وفي حضنه انبثقت الحياة .. فمولانا الماء هو الحياة . فمرحى لسيرة الماء ، وما أطولها وأشقاها من سيرة "!!.. وفي هذا المحور ، أو تلك الدائرة " سيرة التكوين " .." عروس مولانا الماء ".. حوريات الماء .." عرافة الماء " .. تحولات السيد ".. و”مذكرات مولانا الماء” .. وفي القصص هنا محمول متغير متبدل وإن كان يعود لمنبع واحد .. وعلى الأغلب فالصورة تعود بنا إلى التاريخ وبدء التكوين مع فسحة زمنية تمضي بها الأديبة الشعلان إلى الأمام محملة الصور الكثير من الجدة والتغير والتبدل .. وإن كانت دائرة " س . ص . ع . لعبة الأقدام " مقاربة لواقع معاش في قصص نجد فيها البطولة الطامحة لتحقيق ما قد تعجز عن تحقيقه كما في "القدم العرجاء تهوى  لعبة الأقدام أيضا " حيث هذا الاجتماع الغرائبي في لعبة تجمع بين ثلاثة لا يمكن لهم أن يلعبوا هذه اللعبة ( س . ص . ع )..حيث " مدّ كفه بانكسار شحاذ حاف ، فألقمته كفها برضا كليم يمدّ جرحه لآس ٍ ، وبقيت اللعبة ناقصة تحتاج إلى ثالث – على الأقل – لتبدأ. العرجاء بصليل حذائها المقوّم لقدمها العرجاء كانت ذلك الثالث الذي وهبه القدر لهما في لحظة تساهل نادر ، تعانقت الأكف الستة ، وبدأت رقصة س . ع . ص . العيون كانت مشرقة كنوافذ قمرية ، والرقاب مشرئبة، والأرواح معلقة في عرش السعادة . رقص ثلاثتهم كما لم يرقصوا يوما ، وعلت أصواتهم وهم يرددون بفرح مستحيل مداهم :  س. ص . ع . لعبة الأقدام ".. ولم تكن دائرة " سفر البرزخ " بعيدة عن التجريب والخوض في غمار قصة أو حكاية تمتد طويلا في مشاوير رقصة لا نهائية فهذا " ما وجد منقوشا بالخط السماوي اللازوردي الفاقع على جدار البوابة العظمى في البرزخ " وطيه " قصة الخلاص الأولى " حيث قرر " الإله العظيم أن يخلق من فوق عرشه كائنا جديدا ليعبده ، فخلق آدم من أديم الأرض ، ثم خلق من ضلعه زوجه حواء ".. وكانت الخطيئة الأولى والنزول إلى الأرض .. ثم " قصة الخلاص الأخيرة" حيث رددت الأرض " الحرية طريق العباد إلى الله " ولا خروج عن خط الخطيئة الأولى واستمرارها في تتابع لا ينتهي ..

وإن أخذنا عند الأديبة سناء الشعلان دائرة " حكاياتها " فهناك الحكاية الأم والتي ترجع بنا إلى تكرار قصة قابيل وهابيل لكن بتحميل من المؤلفة يضيف إليها .. ثم الحكاية النموذج في اضطهاد الأنثى .. والحكاية المأساة في قتل الأنثى .. لنرى أنّ الأنثى واقعة أبدا في شباك الموت الذي يحاصرها في كل حين .. بينما في دائرة " قاموس الشيطان " نمضي مع ألفبائية الجور ضمن وقوع متكرر في مصيدة الشيطان أو إغواء الذات وشركها في نسبة للشيطان على جري العادة .. وفي هذه الدائرة علاقة الانجذاب الدائم بين الذكر والأنثى في كل الأحوال ودون توقف .. بينما تدخلنا دائرة " أحزان هندسية " في تشكيل جديد يقوم على بنية العلاقات الإنسانية بالرجوع إلى التشابه أو التشابك مع الأشكال الهندسية من مثلث ومربع ودائرة ونقطة المركز .. وفي نقطة المركز صورة الصبي المنغوليّ الذي يغيظه أن يكون دائما محل الاهتمام ووقوعه في دائرة المركز من توجه كل المحيطين له .. ورغم مرضه الذي لا يعرف كنهه ، فهو متضايق من هذا الاهتمام الخانق الضاغط على الأعصاب ..وكم تمنى أن يخلص من كل ذلك دون جدوى ..

وضمن " خرافات أمي " و" نفس أمارة بالعشق " و" مليون قصة للحزن " نختتم سفرا مليئا بالحركة والتشعبات والدوائر المتواترة التي يصعب أن يقبض على جوانبها في أي مقالة صغيرة أو كبيرة ، كون الكاتبة الأديبة سناء الشعلان لا تعطينا قدرة على التقاط النفس وهي تتابع سرد رويها أو حكاياتها بتتابع مدهش ذكي لماح شديد الخصوبة .. فحتى إن شئنا الوصف لا الغوص ، نحتاج إلى الكثير من الوقت والمتابعة والانتباه كون المؤلفة موسوعية التوزيع والثقافة والقدرة على بناء عوالمها القصصية المدهشة .. لكن هل انتهيت من حديثي عن هذه المجموعة الشيقة؟؟..

أجلت الحديث عن دائرة " المفصل في تاريخ ابن مهزوم وما جادت به العلوم " وسأحاول الاختصار قدر استطاعتي مع أهمية هذه الدائرة وإشاراتها التي تتسع لتشمل الكثير .. فأسّ هذه الدائرة الغريبة العجيبة قلب كل شيء وتغيير مسار كل ما هو متعارف عليه راسخ في الذاكرة .. فنحن نسلم أو نركن تماما إلى ما كان من قصص حول شخصيات صارت جزءا من تكوين ذاكرتنا ومروياتنا .. لكن الأديبة سناء الشعلان تقلب التوقع وتأتينا بما يكسر النمط ويحيله إلى قطع علينا أن نجمعها من جديد لكن بصورة أخرى .. فابن زريق البغدادي صاحب القصيدة العينية المشهورة " لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه " ليس هو ابن زريق الذي نعرفه .. وشهريار صاحب شهرزاد يصير غير الذي كان لتصير شهرزاد هي المتحكمة به والتي تخضعه لأمرها .. وبجماليون يصير تمثاله الشهير جالاتيا مجرد امرأة غاية في القبح والتشوه .. ومسرور ينقلب على سيفه ووظيفته ليصير ملكا بعد أن يطيح بالملك .. ومعروف الإسكافي يعد العدة ليسمي نفسه بشهريار الإسكافي .. والسندباد يخرج من التاريخ المحدد له ليجوب عالمنا ويكتشف أمريكا من جديد وينقلب إلى رجل معاصر يدرس ويعد العدة لمهمات أخرى .. وسندريلا بنت قبيحة تسقط عنها كل حسناتها من جمال وصبر وما إلى ذلك لتصير عكس ما كانت عليه .. و.. تنهي القصص كلها صريعة أو ذبيحة بتر وانقلاب يغير كل مساراتها القديمة ..

" تراتيل الماء " مجموعة قصصية للأديبة سناء الشعلان خرجت عن المتوقع لتشكل كما من القص المغاير تماما والجديد والجميل والمدهش بكل ما حمل .. هي كاتبة تشتغل على قصصها بشكل ساحر لتبدد نمط القص العادي والرتيب متجهة نحو عوالم جديدة غاية في الإدهاش .. للدكتورة الأديبة سناء الشعلان أن تفخر بهذا السفر الرائع الجميل ..

عدد القراءات : 6626
Share |
اضف تعليقك على الفيس بوك
التعليقات